سلام السودان .. ربما يأتي قبيحا..!

TT

هناك اختلاف بالطبع بين من يرى الأشياء وهو خارجها ومن يراها بعين من هو في قلب أحداثها، وذلك يصدق على كل القضايا بما فيها قضية مفاوضات السلام السودانية بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان التي أنتمي اليها والتي ظللت أحد مفاوضيها الرئيسسيين منذ التوقيع على بروتوكول ماشاكوس بين الطرفين في 20 يوليو (تموز) عام 2002..

وبرغم كل التهليل والتحفظات التي صاحبت توقيع ذلك الاتفاق بوسعي أن أكشف، وأدعو للتوقف عند مدلول الكلمة، أن أول تعليق للدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، كان أن ذلك الاتفاق قد جاء Clumzy وللكلمة معان متعددة بينها على سبيل المثال «أخرق، وغير متقن،وغير رشيق»، ولكن ايحاء د. قرنق لا يخلو من ترميز لجهة المساومة Compromise التي ظلت تصاحب هذه المفاوضات الى هذه اللحظات وستصاحبها لاحقا. كان ذلك على صعيد القضايا الشائكة مثل توزيع الثروة والسلطة والمناطق المهمشة أو على صعيد الفترة الانتقالية والقضايا الأقل تعقيدا. وليس سرا أن الطرفين ظلا يمارسان فن التفاوض بمستحقاته المعروفة من مناورة ومداورة وتعنت. فنحن مثلا ومع أي قضية نقول اننا نريد 90 ملعقة، فيقول مفاوضو الحكومة: لا بل ملعقة واحدة، فتبدأ رحلة التنازل من الجانبين الى خطوة في منتصف الطريق، ولكم أن تتخيلوا كل تلك الرحلة من 90 الى 50 وتلك الأخرى من 1 الى 49.

وأقول بهذا المثال اشارة الى موجة التفاؤل السائدة بأن التوقيع على الاتفاق ربما يكون منتصف ديسمبر القادم، ولا أريد كمفاوض يده على النار نفسها أن أستبعد ذلك كلية، ولكني أتوقع تاريخا مثل الربع الأول من العام القادم، أو فلنقل يناير أو فبراير.

ولكن القضية الجديرة بالاعتبار تتعدى عنصر الزمن، الى قضية أخرى هي المضمون، والاسئلة المعلقة في عقول السودانيين شمالا وجنوبا، حكومة ومعارضة، يمكن اختزالها في سؤال واحد هو، ما هو شكل ومضمون السلام القادم وكيف سيكون شكل وافرازات مستحقات تطبيقه؟ ومرة ثانية، لا أريد أن أحرم المتفائلين من هذا الجانب أو ذاك متعة التمتع بذلك التفاؤل، ولكني وبعيدا عن كوني مفاوضاً، وكسوداني عايش ماضي وحاضر هذا الوطن، أرجو أن لا يستبعد أي سوداني احتمال أن يأتي ذلك السلام قبيحا، والأسباب هنا كثيرة، وعنها حدث ولا حرج. وأقول هنا بداية ان كل الأنظار، أنظار السودانيين والأسرة الدولية، تتوق الى معرفة شكل ومضمون السلام القادم وتداعياته على مستقبل السودان ذاته. وكسوداني وليس كمفاوض، أرى أن ذلك سيعتمد إلى حد كبير على تعاطي السودانيين في الشمال والجنوب مع السلام، وهو تعاط لا يمكن له، وللأسف، أن يأتي مبرأ من كل اسقاط وتبعات ماضي العلاقات بين البلدين، ودعوني أكون صريحا هنا لأقول أنه وما لم نعمل معا جادين ومخلصين على استئصال كافة الأمراض والأورام التي شوهت وما زالت جسد ذلك الماضي فسيختنق السلام، ويخنق معه كل أحلام السودانيين في سودان جديد يستشرف مهام ألفية جديدة.

ودعوني أكون أكثر صراحة وأستدعي محادثة لي مع شقيقة لي قالت لي فيها حين تدفع امرأة أو رجل من جنوب السودان في حافلة مواصلات عامة فالشعور الذي ينتابك هو أن كل عيون الشماليين الذين جمعتك معهم الحافلة توشك أو تكاد أن تفترسك، أو أستدعي رواية أخرى أكثر قسوة قال لي بها صديق من جنوب السودان يقول فيها ان نظرة الشمالي لك ما زالت تحمل وحين تدقق فيها حديثا أو وصفا صامتا لا يرى فيك غير مجرد عبد.

وأرجو هنا أن نتعمق المضمون وراء مثل هذه الاشارات، إنه يتعدى بكثير مجرد كونه انطباعا من امرأة أو رجل من الجنوب، ليصبح ما يعرف بالقوالب أو الأحكام النمطية، Stereotypes وقد تغذت بالسنين وصقلتها المرارات والحروب حتى اقتربت من أن تكون ثقافة عامة وشائعة ومسلما بها لجهة أن الشمالى متفوق أصلا Superior وأن الجنوبي ومن تلك المرارات أصبح يعيش حالة يرى نفسه في وطنه وهو أدنى أو وضيع Inferior فمن أين لأي وطن، دعكم من السودان، يمكن أن يقوم له شأن تحت مثل هذه القيم.

ذلك يقودني بالطبع الى الإشارة الى أمور ذات صلة بمثل هذه القضايا ما دمنا نتحدث عن القيم، وللقيم علاقة أيضا بالمبادئ، وأقول هنا، وليس من باب دفع التهم التي صاحبت قبول الحركة الشعبية التفاوض مع الحكومة، اننا في الحركة قبلنا التفاوض على مبدأين واضحين لا تفريط فيهما تحت أي ظرف، ولن تستكمل الحركة أو تمضي بالتفاوض أو توقع على اتفاق لا يتضمنهما نصا وتطبيقا، وهما مبدأ الحقوق الأساسية للمواطن والمواطنة بما فيها مبادئ حقوق الانسان، وأن يؤدي أي سلام منشود الى الانتقال الفعلي والحقيقي نحو الديمقراطية.

وحين نقول بذلك نريد للجميع أن يعرفوا أننا أصيليون وموضوعيون تجاه هذه المبادئ، ولدرجة أننا ومنذ أن حاربنا كنا ننشدها ونضحي من أجلها. لقد حاربنا كل الأنظمة رفضا للإقصاء، واليوم ونحن نفاوض لا يمكن أن نقبل التنازل عنها بمبررات التفاوض، وبدليل أننا نضمن ونوافق على أن يكون للجبهة القومية الاسلامية أو المؤتمر الوطني الذي مارس سياسة إقصاء الآخر مكان في السودان الجديد، ولأننا وإذا ما حاولنا أن نركن الى التسليم بسياسة إقصائهم نكون قد أصبحنا مثلهم. ومن هنا ومن باب التوضيح أقول انا نقاتل في هذه المفاوضات على أن لا تقصي الفترة الانتقالية أي حزب أو فصيل أو جماعة مهما كان الحال، ولكن هذا لا يعني بالطبع أن نضمن لأي حزب أو فصيل مقاعد في السلطة في الفترة الانتقالية، رغم أن ذلك قد يحدث، وإنما يعني حرصنا، بل واشتراطنا الذي لا يقبل المساومة، بكفالة حق الممارسة السياسية دون قيد أو شرط لكل تلك الجهات.

* قيادي في الحركة الشعبية و عضو وفد مفاوضات السلام وامين عام التجمع الوطني المعارض. المقال مأخوذ من مناظرة القاها في لندن اول من امس