لبنان وسورية: الرهان على المقاومة والانتفاضة

TT

الشرق الأوسط مشدود إلى واشنطن، وياسر عرفات مدفوع إلى خيارات شديدة المرارة والخطورة.

فمن قائل له إن ما يقترحه بيل كلينتون هو الحد الأقصى الذي يمكن لرئيس أميركي أن يقدمه للفلسطينيين وأن يفرضه على الإسرائيليين، وفي حال رفض الفلسطينيون هذه المقترحات فإنهم سيندمون طويلا، كما ندم العرب حين رفضوا مشروع التقسيم في عام 1947.

ومن منتقد المقترحات الأميركية التي لا تلبي، في نظره، الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، وفي حال قبولها يكون ياسر عرفات قد تنازل عن قرارات الأمم المتحدة ومبادئ الشرعية الدولية، واجهض الانتفاضة، واسقط أهم بند قاتل من أجله سنوات طويلة، وهو حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.

ومن محذر من مغبة وصول ارييل شارون إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في حال عدم إبرام اتفاق مع ايهود باراك، ومنبه في الوقت عينه إلى ضرورة عدم الوثوق بالوعود التي يقطعها ايهود باراك. وإلى جانب هذا أو ذاك، فإن الانتفاضة الفلسطينية مستمرة، والقمع الإسرائيلي مستمر، والعمليات الانتحارية ومسلسل الاغتيالات في تصاعد.

والحقيقية ان معظم الذين يشجعون ياسر عرفات على القبول بالمقترحات الأميركية ينطلقون من مصالحهم الخاصة، ومعظم الذين يعارضونه يستندون إلى حساباتهم الذاتية، غير أن القضية المحورية التي تستحق أن يتوقف عندها الزعيم الفلسطيني هي مسألة حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.

والواقع أن المقترحات الأميركية تتضمن إيجابيتين، وهما الاعتراف بالدولة الفلسطينية والسيادة الفلسطينية على المواقع الإسلامية المقدسة في القدس. كما تتضمن العديد من النقاط الغامضة والفضفاضة التي طالب الجانب الفلسطيني الاستفسار عنها، لكنها تحتوي على سلبية أساسية معطلة لكل المقترحات تتمثل بالتخلي عن حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، مع العلم بأن حق العودة هو حق فردي لا يمكن قانونا لأي سلطة أن تتنازل عنه. ولو قيّض لياسر عرفات أن يستحصل على حق العودة بعد أن استحصل على القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، لكان بمقدوره أن يوقع الاتفاق النهائي المعروض عليه وهو مرتاح الضمير.

*** لكن التطورات قد تنحو منحى دراماتيكيا يصل إلى حد يرى فيه ياسر عرفات نفسه في مواجهة مفتوحة مع ارييل شارون أو مع الانتفاضة الفلسطينية، وكأن قدر الزعيم الفلسطيني أن يعيش في مواجهة مستمرة، مع الفارق أن مواجهة ارييل شارون تحول دون اندلاع حرب اهلية فلسطينية وتجبر الحكومة الإسرائيلية، آجلاً أم عاجلاً، على التعامل معه، ولو اضطر إلى مغادرة مناطق سلطة الحكم الذاتي لفترة محدودة.

ويرقب لبنان وسورية هذا المشهد بكثير من الحذر: عين على مسار التفاوض الفلسطيني، وعين على مسار الانتفاضة الفلسطينية. وأغلب الظن أنهما يستعدان لمواجهة المسارين على حد سواء.

ليس في الأفق ما يشير إلى أن الرئيس الفلسطيني بصدد اجهاض الانتفاضة أو بصدد الصدام مع قادتها، ولو أنه وعد الرئيس الأميركي في لقائهما الأخير في واشنطن بالسعي إلى التخفيف من حدة العنف مقابل امتناع ايهود باراك عن تصعيد عملياته العسكرية ضد الفلسطينيين. ولا اعتقد أن ياسر عرفات هو من السذاجة بحيث يقبل بوقف الانتفاضة فيما مستقبل الوضع الفلسطيني كله باق على غموضه وسلبياته.

ولن يزيل هذا الغموض في نظري إلا الانتفاضة نفسها، تماما كما أزالت المقاومة اللبنانية الغموض الذي كان يكتنف مستقبل الوضع في جنوب لبنان. وتضغط إسرائيل في الوقت الحاضر على سلطة الحكم الذاتي لوقف الانتفاضة مباشرة أو مداورة عبر واشنطن، كما كانت تضغط على بيروت ودمشق لكبح جماح «حزب الله» مباشرة أو مداورة عبر واشنطن ايضا.

وعرفت بيروت ودمشق كيف تردان على إسرائيل لتؤكدا لها أن الطريق إلى وقف المقاومة يمر بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من جنوب لبنان والبقاع الغربي من دون قيد أو شرط، تحقيقاً لشعار اقتبسه لبنان عن حركة «فتح» وهو «المقاومة حتى إزالة الاحتلال»، بما فيه احتلال مزارع شبعا.

ولن يخسر الرئيس الفلسطيني إذا ما رفع شعار «الانتفاضة حتى الاستقلال»، ما دام النموذج اللبناني ما زال حاضرا في العقل الإسرائيلي. فحين كانت تتصاعد أعمال المقاومة وتنزل الخسائر البشرية بالجيش الإسرائيلي، كانت تتصاعد مطالبات الشعب الإسرائيلي بضرورة الانسحاب من لبنان ولو من طرف واحد ومن دون قيد أو شرط. وبقدر ما ستقوى الانتفاضة، ستتجه إسرائيل إلى خيار الانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية من دون قيد أو شرط. وما حدث في لبنان بدأت تظهر معالمه في فلسطين: عدد متزايد من الجنود الإسرائيليين يرفضون الخدمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والعديد من المنشورات الإسرائيلية تسأل عن مغزى قمع الانتفاضة وتأخير إعلان استقلال الدولة الفلسطينية.

ولن يربح ايهود باراك أو ارييل شارون الكثير إذا ما قررا أن يهربا إلى الوراء عن طريق قرع طبول حرب اقليمية جديدة بقصد تحقيق انتصار مصطنع يعرفان سلفا انه لن يؤسس إلى هزيمة عربية. وما لم تدركه إسرائيل، أو لا تريد أن تدركه في الحاضر، انها ما عادت في مواجهة مفتوحة مع جيوش عربية، بل في مواجهة مباشرة مع كل الشعوب العربية. وإذا كان من السهل نسبيا على الجيش الإسرائيلي أن ينتصر على جيوش الأنظمة العربية، فليس بمقدوره أن يتغلب على الانتفاضة الفلسطينية، كما لم يقدر أن يتغلب على المقاومة اللبنانية.

ولهذا، يكبر رهان لبنان وسورية على الانتفاضة، ويكتمل رهانهما إذا ما راهن ياسر عرفات بدوره عليها، كما راهن الرئيسان اللبناني والسوري اميل لحود وبشار الأسد، على المقاومة اللبنانية. وكلما التقت استراتيجية لبنان وسورية والسلطة الفلسطينية، اقترب الشرق الاوسط من الحل العادل والشامل.

ومن دون حق عودة الفلسطينيين، يبقى «السلام ناقصاً»، كما أعلن اميل لحود. ولا مصلحة للبنان وسورية القبول بأي حل لا يتضمن حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم خوفاً من أن نؤسس «لحرب أخرى» بين العرب وإسرائيل، ربما تكون أكثر شراسة من الحروب الماضية.

ولن تستقر التسوية السلمية إلا إذا اعترفت إسرائيل بحق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم. ولن تعترف إسرائيل بهذا الحق عن طريق المفاوضات، بل عن طريق العمل الميداني، سواء اتخذ طابع المقاومة في لبنان، أو الانتفاضة في فلسطين، أو الصمود في سورية.

معاودة المفاوضة الإسرائيلية ـ الفلسطينية حدث مهم، لكن الأهم هو استمرار الانتفاضة والمقاومة والصمود إلى حين تتحقق التسوية الشاملة والعادلة.