الهرب الأخير إلى المدافن

TT

لا يحدث كثيرا أن يبدأ إنسان حياته في المدافن. لكن المثوى الترابي الذي أريح إليه محمد شكري أمس، هو المكان الذي عاش فيه يفاعه وشيئا من شبابه وبعض أفظع بؤسه الذي سوف يحوله فيما بعد إلى واحد من أشهر كتاب المغرب، وواحد من أكثر الكتاب العرب فجاجة وقسوة وفظاظة.

يروي محمد شكري في «الخبز الحافي» ثم في كل الكتب الأخرى التي نشر فيها سيرته ما بين الفقر والعوز والنشاز والتسكع والتشرد، كيف كان يهرب إلى المدافن هو وأترابه، خوفا من حالات الاغتصاب التي كانت تسود عالمه الفقير المليء بأعقاب السجائر وحشيشة الكيف وفتات الخبز والمقاهي التي لا يؤمها سوى العاطلين عن العمل والبائسين والذين يتساوى عندهم الليل والنهار واليأس والأمل.

كل مساء نراه عائدا إلى عالم المدافن. هو ورفاق الجوع والفقر. هو وسارقو الساعات من البحارة. هو ومهربو السجائر في عالم طنجة السفلي المعتم المليء بالارتخاء الفلسفي المطلق، المليء بكل شيء، كل شيء والخالي أيضا من كل شيء، من كل جمال من كل قيد، من كل طيب، وخصوصا من كل أمل أو وعد.

ولد بلا شيء، أم مسكينة وأب فظ قاس يضرب الأم والأولاد ثم يقضي على أحدهم ضربا حتى الموت، وولد بلا عطف وبلا حنان وبلا خبز وبلا أصدقاء وبلا مدرسة. ولن يعرف محمد شكري الكتابة والقراءة إلا بعد أن يبلغ العشرين من العمر، العمر الذي يتخرج فيه الطلاب من الجامعات. لكنه ما إن يتعلم كيف يبري القلم الرصاص حتى يبدأ في كتابة قصته، أو ملحمته التي لا تنتهي إلا عندما تعود به دورة الحياة إلى مدافن طنجة، التي جاءها هاربا من أزمة تطوان ومن أسواق العاطلين عن العمل وأزقة الجنود الإسبان الذين كانوا لا يزالون يحتلون المغرب المجاور، فيما احتل الفرنسيون المغرب الآخر.

كان محمد شكري عالما متناقضا صاخبا غاضبا مرا متهتكا وغزير المشاعر. وقد أعطته طنجة البؤس والخيبة والعذاب، لكنها ما لبثت أن دثرته بالإعجاب وغمرته بالشهرة، وأعطته صداقة وود كبار سكانها من الزعماء السياسيين والأدباء ومن بعض أشهر الكتَّاب العالميين. وفيها التقى هذا المشرد مثل مشردي أفلام شارلي شابلن، فيها التقى زعيما عظيما مثل علال الفاسي. وكان يأتي مجلسه في فندق شهرزاد ساعة لا يكون غارقا في عالمه الآخر المليء بالوجودية والحشيش والسقط في كل الناس وفي كل الأشياء.

إلى اللقاء.