... وخطيئة (التعلق) بكلينتون 7 حقائق تحكم الحركة والوقت

TT

هل نحن في حاجة الى ان نقول: اننا نمتلئ احساسا وشعورا بما يكابده الشعب الفلسطيني من مظالم ومآس وآلام تفوق التصور، واننا نشعر وكأننا نعيش معهم تحت ضغط الاحتلال الصهيوني الذي استباح كل شيء فلسطيني في الارض المحتلة، وكأننا مع هذا الشعب وهو يتجرع ـ على مدار الساعة ـ مرارة الغربة، والشتات، والحرمان من الوطن طوال نصف قرن؟.. لئن شاطرنا الشعب الفلسطيني مأساته الحقيقية، لا المجازية، فاننا لا نسمح لهذا الاحساس بأن يدفعنا الى ما يزيد كرب هذا الشعب، وما يضاعف محنته وآلامه.. ونعني بهذا الدفع: أن نقول له: أمامك خياران اثنان لا ثالث لهما: اما أن توافق (الآن الآن وبسرعة) على مظالم جديدة، وعلى ما لا تريد (آخر مقترحات امريكية).. وإما أن يضيع منك كل شيء.

ان مصائر الشعوب لا تقررها ذهنية الاستعجال، ولا ضغوط (اللحظة الراهنة).. وقد يقال: ولا تقررها ايضا: ذهنية الاستبطاء، وتجاهل اللحظة الراهنة. وهذا صحيح كذلك.. اذن ما هو المعيار الموضوعي الصحيح في تقرير مصائر الشعوب؟ هو (الحقوق) والثوابت والمقررات: الفلسطينية، والعربية والاسلامية، والدولية. فاذا استجيب لهذه الحقوق والثوابت والمقررات، فان التلكؤ في الاستجابة، للاستجابة: جريمة معنوية ومادية لا يطيقها ذو ضمير حي. ومن هنا تجب المسارعة الى كل مبادرة تنفذ بموجبها تلك الحقوق والثوابت والمقررات. ولو حدث ذلك، فاننا سنكتب في هذا المكان سلسلة من المقالات التي ترحب بهذه الانجازات المنصفة، والتي تؤسس لاقناع من لم يقتنع من شرائح الامة.. اما عندما لا تحدث استجابة حقيقية وصادقة لتلك الحقوق والثوابت والمقررات، فان التلويح بعامل الزمن لا يصلح معيارا لمعالجة قضية كبرى كالقضية الفلسطينية، ولو حسنت النيات، فان حسن النية لا يغني عن سلامة المنهج.. وسلامة المنهج تتمثل ـ ها هنا ـ في ان معيار الموقف السليم هو: الحقوق والثوابت والمقررات: الفلسطينية والعربية والدولية، وهي من الوضوح والعدل والواقعية بحيث لا تخفى على احد. وانه لمن المحزن ان تخفى على احد.

ومهما يكن من امر تقدير (اللحظة الراهنة)، فان هذا التقدير لا ينبغي: ان يتجاهل (منظومة الحقائق والوقائع) التي يقضي التفكير الاستراتيجي والسياسي باعتبارها واستصحابها وتمثلها:

1 ـ الحقيقة الاولى هي: القانون الدولي والشرعية الدولية. فحقوق الشعب الفلسطيني مقررة في هذا القانون، مسنودة بهذه الشرعية. فالاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية تنص على انه «لا يجوز حرمان احد بصورة تعسفية من حق في الدخول الى بلده».. وينص ميثاق الامم المتحدة على انه «لكافة الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها استنادا الى هذا الحق ان تقرر بحرية كيانها السياسي، وان تواصل بحرية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي».. وينص قرار مجلس الامن رقم 242 على «سحب القوات الاسرائيلية من الاراضي التي احتلتها في النزاع الاخير» ـ اشارة الى حرب 1967 ـ كما ينص على «تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين». وهذا العدل يفسره قرار الامم المتحدة رقم 194 الذي ينص على «وجوب السماح بالعودة في اقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة الى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة الى بيوتهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر».. ان هذه الحقيقة القانونية الدولية لا تلغيها المقترحات الامريكية التي اجترأت فنصت على ان تكون هي بديلا لحق العودة، وهي ـ بالمناسبة ـ لا تتضمن حق العودة، بل تلغيه وتجعله متناقضا مع (طبيعة الدولة اليهودية).. ليس من حق امريكا ان تفعل ذلك. ويجب ان تُنتقد بشدة على هذا السلوك الذي ينشئ او يكون ذريعة لـ(فوضى دولية) من خلال تجاوز القوانين الدولية. بل يجب ان يُنتقد اي زعيم فلسطيني او عربي يساير امريكا في التسبب في هذه الفوضى.

2 ـ الحقيقة الثانية هي: ان المفاوض الفلسطيني قدم من التنازلات ما يجعل كل ذي ضمير انساني منصف يمتنع عن مطالبتهم بالمزيد من التنازلات. فالمزيد هو: الاغتيال المعنوي للشعب الفلسطيني، وهو: تأصيل الاحتلال للأرض الفلسطينية، وهو احتلال فصلته مقترحات كلينتون.. ان من أبرز التنازلات التي قدمها المفاوض الفلسطيني:

أ ـ الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود.. وهذا الوجود الجغرافي المعترف به للمؤسسة الصهيونية هو: فلسطين المحتلة عام 1948.

ب ـ القبول بقرار مجلس الامن رقم 242. وهو قرار يتضمن ان ما احتل قبل تاريخ صدور القرار ـ 1967 ـ ليس مطالبا به.

ج ـ تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني. فقد بعث رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، بخطاب الى اسحاق رابين جاء فيه: «ان منظمة التحرير الفلسطينية اذ تستقبل عهدا جديدا، وتوشك ان توقع اعلان المبادئ في اطار الموافقة الفلسطينية على القرار 242 والقرار 338 لمجلس الامن تؤكد ان مواد ونقاط الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر حق اسرائيل في الوجود وأيضا نقاط الميثاق التي تتعارض مع التعهدات الواردة في هذه الرسالة اصبحت عديمة الاثر وغير سارية المفعول».. فماذا من تنازلات بعد ذلك، إلا الحكم على الذات بالذل والعبودية المطلقة للمؤسسة الصهيونية؟

3 ـ الحقيقة الثالثة هي: ان هذا السلام الملغوم المأزوم ـ الذي تطرحه الادارة الامريكية الآفلة ـ سيكون ـ بلا شك ـ (خميرة صراعات جديدة) أشد وأحد.. الم تكن (اوسلو) ـ وإحباطاتها ـ سببا رئيسا في تفجر الانتفاضة الراهنة؟.. هيا.. تجاهلوا ذلك كله، وابرموا سلاما على غرار اوسلو أو اسوأ منها.. افعلوا هذا، وستفاجأون غدا او بعد غد بانتفاضة اوسع مدى، وأشرس مواجهة، واطول نفسا واعصى على السيطرة: انتفاضة قوامها: (المغبونون) في الداخل الذين يسيطر عليهم احساس قاتل باضاعة الكفاح، والاستهتار بالدم المراق، والعبث في توظيف انتفاضتهم، بمعنى ان التوظيف كان ادنى ـ بمراحل ـ مما ينبغي ان يكون من مكاسب سياسية واستراتيجية.. وقوام الانتفاضة القادمة ـ كذلك ـ (المغبونون) في الشتات الذين لا يستأمرون وهم شهود.. وفيم؟.. في امر هم اول المتلظين بنيرانه وسعيره.

4 ـ الحقيقة الرابعة هي: ان الانتفاضة الماثلة هي (الكفاح الصحيح) المشروع، اي الكفاح من الداخل.. فالشعب الفلسطيني يتولى بنفسه ادارة الكفاح، ولم ينتظر من احد، ولم يطلب من أحد ان ينوب عنه في مقاومة المحتل.. وهو كفاح صحيح لانه لا يحمل أية دولة عربية مسؤولية المقاومة، اذ الحدود كلها مغلقة باحكام.. وهو كفاح صحيح لانه ينهي مقولة المتاجرين الذين تاجروا طويلا بحكاية الدفاع عن فلسطين.. وقد يسأل سائل: ماذا تريدون، أتريدون استمرار المقاومة؟.. والجواب هو: ان هذا هو خيار الشعب الفلسطيني الذي اتحد صفه على الكفاح من أجل الحرية والاستقلال.. وهي مقاومة جاءت نتيجة لتقصير القيادات الاقليمية والدولية في ان تفعل شيئا من أجل الفلسطينيين. ثم ان الكيان الصهيوني يبوء بالقسط الاعظم من مسؤولية ما يجري، فهو الذي ضغط على الشعب الفلسطيني في الارض المحتلة ضغطا ولد الانفجار واستدامه.

5 ـ الحقيقة الخامسة هي: ان معظم النشاط السياسي الجاري الذي تباشره المؤسسة الصهيونية والادارة الامريكية لا يهدف الى (حل عادل) للصراع، بل يهدف الى (وأد) الانتفاضة. فالمسألة في نظر هؤلاء ليست حقوق الشعب الفلسطيني: الجغرافية والسياسية والسكانية، بل المسألة عندهم هي (امن) الكيان الصهيوني اولا وثانيا وثالثا.. وخامس عشر. والسوابق القريبة والبعيدة تؤكد ذلك. ومنذ ايام جرى اتصال وتفاهم بين وزيري خارجية روسيا وامريكا على (وقف) الانتفاضة بأسرع وقت مستطاع. ولقد صرح وزير خارجية العدو بأن المقترحات الامريكية هي (معايير) للتسوية، وان قدرة السلطة الفلسطينية على انهاء العنف هي المعيار الاول من هذه المعايير.

6 ـ الحقيقة السادسة هي: ان الشعب الفلسطيني لا ينبغي ان يكون (بدعا) بين الشعوب، لا ينبغي ان ينظر اليه على انه هو وحده الذي (يفرط) في وطنه.. لقد شنت حرب دولية لاجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.. وكافحت مصر حتى استردت كامل ترابها من الكيان الصهيوني.. وقاوم لبنان حتى تحرر الجنوب الا قليلا.. وتصر سورية على استرداد الجولان كله.. والمغرب لا يقبل مقايضة ولا مساومة على تبعية الصحراء الغربية له.. فلماذا يظن ان الشعب الفلسطيني أقل وطنية، وان وطنه اقل قيمة وأهمية من اوطان غيره؟

7 ـ الحقيقة السابعة هي: ان الظروف العامة ليست من السوء بحيث يحصل (التفريط التاريخي) في الحقوق. على العكس، هناك ظروف وحيثيات ينبغي قراءتها بجد وانتباه مصحوبين بالتوثب والنشاط، لا بالتثاؤب والكسل.. ومن هذه الظروف والوقائع:

أ ـ ان امن المؤسسة الصهيونية تصدع بفعل الانتفاضة. صحيح ان جراح الانتفاضة عميقة. بيد ان جراح العدو لا تقل عمقا ولا كربا «إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون».

ب ـ ان القضية الفلسطينية وجدت من التأييد العربي والاسلامي، في اثناء الانتفاضة ما لم تجده من قبل. وهذا ظرف نفسي وسياسي يجب حسابه واستثماره.

ج ـ ان احدث استطلاع للرأي العام في امريكا، يظهر تبدلا جيدا في اتجاهات الرأي العام الامريكي لصالح القضية الفلسطينية.. وخلاصة هذا الاستطلاع ـ كما كتب جيمس زغبي ـ هي: ان غالبية الامريكيين:

اولا: تؤيد قيام دولة فلسطينية بنسبة 63.5 في المائة مقابل معارضة 15 في المائة.

ثانيا: تؤيد عدم نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس بنسبة 57 في المائة مقابل 23 في المائة ترى نقل السفارة.

ثالثا: تطالب الرئيس المنتخب جورج بوش بانتهاج خط وسط في سعيه لاحلال السلام في الشرق الأوسط بنسبة 71 في المائة، مقابل 17 في المائة يطالبون بوش بالانحياز الى احد طرفي الصراع.

وهذا مدخل ممتاز الى السياسة الامريكية تجاه الصراع العربي ـ الصهيوني، وهو مدخل يستوجب سرعة الحركة.

ان هذه الحقائق ـ مجتمعة ـ ينبغي ان يستصحبها ويتمثلها التفكير العربي: السياسي والاستراتيجي، وهو يتناول في هذه الحقبة اخطر قضية عربية اسلامية بعد قضايا: الحروب الصليبية واجتياح التتار.. وسقوط الاندلس.