الحلقة «1» ــ في الطريق إلى بغداد.. شيء من الرهبة وكثير من التوقعات

TT

اعترف أنه عند تكليفي هذه المهمة التي كنت أتطلع اليها منذ أمد طويل، لا سيما انها أول مرة توفد فيها «الشرق الأوسط» أحد محرريها الى بغداد منذ اجتياح العراق للكويت عام 1990، لم ينتبني شعور بالتحفظ، الا ان القلق الذي عبر عنه بعض الذين من حولي جعلني آخذ بعض مخاوفهم مأخذ الجد، خاصة تلك الصادرة عن معارفي العراقيين، فلقد تحول العراق بأهله ونظامه في نظر الكثيرين خارجه الى بعبع وغول يخشى التعامل معه.

السفر الى بغداد من العاصمة البريطانية كان بالامكان ألا يستغرق اكثر من ست ساعات، لكن الحصار المفروض على العراق منذ أكثر من 10 سنوات جعل رحلتي قبل أيام قلائل من حلول القرن الحادي والعشرين تشبه رحلات الرحالة في العصور الغابرة، اذ استغرقتني الرحلة إلى العاصمة العراقية يومين كاملين.

انطلقت طائرة الخطوط الملكية الأردنية صباح يوم اثنين من مطار هيثرو الدولي بعد تأخير دام أكثر من ساعتين. ولحظات قبل اقلاع الطائرة قرأ أحد أفراد الطاقم دعاء السفر مبتهلاً إلى الله أن يحمي «رحلة الملكية» من أي مكروه، علما أن جل ركاب الطائرة كانوا أجانب لا يفهمون ولا يعون معنى تلك الكلمات التي كان وقعها علي «كجلمود صخر حطه السيل من عل». كل المخاوف المكبوتة حول المهمة استيقظت فجأة وعادت إليّ ذكريات الطائرات التي حلقت في الأجواء لتعود الى الأرض حطاما وأشلاء وجثثا لا يُعرف فيها قريب من غريب. ووسط الذكريات الأليمة والصور العنيفة وفرص السلام الضائعة استمرت رحلتي الى مطار عالية بعمان لنحو أربع ساعات ونصف الساعة، فضلا عن نحو ساعة كاملة في اتمام اجراءات مغادرة المطار والوصول الى الفندق الواقع على مرتفع جبل عمان، أحد جبال العاصمة الهاشمية السبعة. ورغم رفاهية الفندق وحسن الاستقبال بالقهوة العربية، فان الوصول الى عمان مساء، قلل من نكهة الرحلة التي لم يكن ممكناً مواصلتها في الليل. وكلما مرت الساعات اقتربت في الأفق العاصمة العراقية وتبددت المخاوف والترقبات لتحل محلها ذكريات أكثر ايجابية لهذه الدولة، ومساهمة حضارة ما بين النهرين في تقدم الانسانية في وقت كانت لا تزال فيه عواصم أوروبية تتخبط في عتمات الجهل.

وللتقصير من ساعات ليلة عمان التي كانت تبدو طويلة كالحبال، فضلت اكتشاف المدينة التي أزورها للمرة الأولى. فهي عاصمة ليست كغيرها، كونها تبدو للزائر كالخارجة من عصر قديم في حركتها وشكل عمرانها ولونه. وبرفقة سائق الفندق ذهبنا لنكتشف معا وسط عمان الذي كانت تدب فيه الحركة والنشاط في ساعة متأخرة من الليل. واصر السائق لدى معرفته انني صحافية عربية على أن يأخذني الى مرتفع جبل عبدون لرؤية المقر الجديد للسفارة الاميركية، ولو انني أخبرته ان هذا ليس من أولوياتي. وأمام مشاعره التي كانت تجيش لعنة وسخطا على الاسرائيليين وما يقومون به في الاراضي المحتلة، قررت ان استمر معه لاكتشاف هذه السفارة. وبالفعل، مرت دقائق فقط، واذ بنا نقف أمام اشارة مرور تقع على مرتفع الجبل، والى يسارها توجد السفارة. ومن رؤية مبانيها وحالة «الانضباط» التي تميز حركة المارة والمرور من أمامها نفهم لماذا الانضباط في هذه المنطقة اكثر من غيره في مناطق أخرى، فأي حركة يقوم بها أي كان تلتقطها كاميرات التصوير الملصقة على الجدار الطويل الذي يحيط بما يعرفه الاردنيون بـ«المستوطنة». لحظات فقط تحت أضواء ليلية توضح هنا وهناك في الأزقة المحيطة بالسفارة وبجارتها السفارة الاسرائيلية (المقر الجديد) وجود مدرعات عسكرية أردنية تسهر على حمايتها من ريح الغضب التي تهب مع استمرار «انتفاضة الاقصى» على عمان وغيرها من العواصم العربية. وبينما كنت أتأمل مباني الموقع، جاء صوت السائق ليضع حدا لشرود أفكاري قائلا: «أهلا بك الآن في الشرق الاوسط».

وعندها فقط فهمت حرص هذا الرجل، وهو في نهاية الاربعينات من عمره، الذي أعرب عن قلق يشاطره فيه، حسب قوله، الكثيرون من الاردنيين، إن لم نقل جلهم. وعاد السائق هيثم ليقول: «الجميع هنا مقتنعون بأن هناك دهاليز للتنصت وغيرها منصوبة على هذا المرتفع الاستراتيجي الذي يطل على المدينة». وأردف «ولماذا لم يكتفوا بالمبنى الذي كان عندهم، وما حاجتهم لكل هذه المساحة وهذه المرافق وهم مجرد ممثلية دبلوماسية لدولة أجنبية في دولة لا يتعدى سكانها 4 ملايين نسمة». غادرت بعدها السائق وهو يتمتم ويتأوه بحرقة، منتظرا من سيجيب عن أسئلته التي كنت في صميمي مقتنعة بأنه يعرف الاجابة عنها قبل غيره، وهكذا لأعود الى غرفتي وأسلم نفسي لنوم قلق أترقب فيه الطريق الطويل الى بغداد.

الطريق إلى بغداد انطلقت رحلتي الى العراق في الساعة الثامنة والنصف صباح اليوم التالي (توقيت عمان) برفقة صديقين عراقيين التقيتهما صدفة في اليوم السابق على متن الطائرة القادمة من لندن، كانا أيضا متوجهين الى بغداد لحضور مؤتمر دولي حول رفع الحصار. السفر برا الى العراق ليس بالخيار السهل، لا سيما أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لم يترك للمسافرين على أنواعهم وأشكالهم خيارا آخر. وتكمن صعوبة هذا الخيار في كونه مفتوحا لكافة الاحتمالات التي تعرض المسافر الى مخاطر متنوعة، نظرا للظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة، مما جعل قلة فقط من شركات تأمين الأسفار الدولية ترضى ببيع بوليصات تأمين للمسافرين المتوجهين الى العراق. وأهم شيء يشير اليه رواد هذه الطريق هو احتمال التعرض لعصابات تنشط ليلا. بين المركز الحدودي العراقي في طريبيل وبغداد التي تبعد عن نقطة الحدود بنحو 600 كيلومتر.

لكن في اعتقادي، كما أكد سائق السيارة التي حملتنا الى بغداد، وهو سائق قديم على هذه الطريق منذ عدة سنوات، ان الخطر الأكبر الذي يهدد أمن وسلامة المسافر هو حوادث المرور التي رغم غياب إحصاء نسبي لها، فانها تبقى مهمة أمام المشاهد اليومية التي توفرها على جانبي الطريق.

وواصل السائق محمد كلامه عن هذه الحوادث، الى ان رأينا أمامنا حاجزا للشرطة الأردنية تقوم بتحويل حركة المرور الى الطريق القديمة التي هجرتها الحركة منذ فتح الطريق الجديدة، نظرا لوقوع اصطدام بين صهريج للنفط وسيارة أجرة، فنتجت عنه خسائر بشرية ومادية، حسب شرطي المرور. وقال محمد «بعد مرورنا من هنا، أي بنحو ساعة أو ساعتين قبل الوصول الى الحدود العراقية، نبدأ في قراءة الآيات القرآنية، خصوصا في الشتاء أو خلال السفر ليلا، لأن الصهاريج غالبا ما تتسرب منها بعض الكميات من النفط، الامر الذي يجعل المسلك زلقا ويصعب التحكم في السيارة، خصوصا اذا كانت سرعتها تفوق 140 كلم في الساعة».

وهذه الطريق نظرا لحيويتها وكثافة استخدامها منذ فرض الحصار على العراق، أي قبل 10 سنوات، أصبحت تعرف بطريق الحياة والموت في آن واحد. فهي ان كانت الوريد النابض للاقتصاد الاردني وقصبة التهوية للنظام العراقي، فهي ايضا تابوت للكثير من روادها الباحثين عن رزق لهم بين العاصمتين.

وخلال الاربع ساعات ونصف الساعة التي تفصل عمان عن المركز الحدودي، بالامكان تسجيل ان 90 في المائة من الحركة على هذه الطريق هي لصهاريج النفط. وكون هذه الحركة يومية ومملة، يتساءل المسافر إن كانت كلها موجهة للاستهلاك المحلي الأردني؟ وتسببت حركة الصهاريج في اخلال توازن الطريق التي مال جزء منها الى جهة تلك الصهاريج القادمة من العراق، والتي تأتي محملة بالنفط، بينما بقي الجزء الآخر على حاله كون الصهاريج تعود فارغة من الاردن.

ويحمل الصهريج الواحد ما مقداره 7.3 برميل اي بحمولة تناهز 10 أطنان. وللعلم فانه يمر من هذه الطريق نحو 150 الف برميل من النفط التي تصدر للأردن سنويا. كما تشير مصادر عراقية الى أن حجم المساعدات العراقية للاردن يناهز سنويا 500 مليون دولار. والنفط الذي يصدر الى عمان يجري من خلال ثلاثة أنوع من اتفاقيات التصدير، فهناك نفط مجاني ونفط بأسعار تفضيلية وآخر مقابل سلع (مقايضة). وهكذا، لا ينتهي أرق سائقي التاكسيات أو السيارات الخاصة الا بعد تجاوزهم نقطة الحدود العراقية، اذ بمجرد عبور مركز الحدود ودخول العراق تنبسط أمامك الطريق كبساط من حرير في ترسيمها وجودة تبليطها تذكرك بالطرق التي تصل لندن ببقية محافظاتها في الشمال أو الجنوب.

كما تختفي عن مرأى المسافر خزانات النفط الضخمة، التي خصتها السلطات العراقية بطريق تعرف بـ«طريق النفط» بامكان المسافر رؤيتها على بعد أميال داخل الصحراء لتلتحق بالمركز الحدودي الذي يكون معبرها الى الاردن، ومن ثم الى حيثما تشاء. الحصار وفوضى الطريق ورغم أن اختيارنا للسيارة ذهب لأفضل ما يوجد في السوق من وسيلة نقل سريعة ومريحة، فقد قيل لنا إن الرحلة لن تقل عن 12 ساعة على الاقل. وأهم من هذا كله ألا يسافر الشخص لوحده لأن الرحلة تمتد الى مسافة تقارب 1000 كيلومتر، اي نحو 400 كيلومتر من عمان الى الحدود و600 كيلومتر من طريبيل الى وسط بغداد.

وفي الغالب، تصل مدة الرحلة الى نحو 18 ساعة أو أكثر، لأن احتمال تعطل السيارة وارد جدا، خصوصا حين تكون سيارات الاجرة عراقية.. وتتراوح أسعار وسائل النقل الى بغداد بين الحكومية والخاصة، بين السيارات العادية والرباعية الدفع التي يطلق عليها «جيمس»، بين 15 دينارا أردنيا (16 دولارا) و250 دينارا. وصعوبة التنقل على خط عمان ـ بغداد منذ فرض الحصار عام 1991 تشهد فوضى كبيرة يدفع ثمنها معظم أولئك المضطرين للتنقل بين العاصمتين. فالحصار لم يوقف حركة المسافرين، بل عمل فقط على تعقيدها، حيث تعتبر أسعار تذاكر السفر عبر وسائل النقل المريحة للعراقيين الذين انهارت قيمة عملتهم خلال السنوات الماضية كتفكيرهم اقتناء تذاكر على طائرات الكونكورد. ولذا سيبقى هذا الخط شاهدا على محدودية سياسة فرض العقوبات بصفة اجمالية ومطلقة، اذ ان المتضرر الاكبر من هذه الاجراءات لم يكن التاجر الذي استمر في تجارته وبضائعه تملأ اسواق العاصمة العراقية، ولا رجال النظام العراقي الذين يسافرون ولو براً، لكن على متن سيارات مريحة، بل المتضرر هم المسافرون من عامة الشعب، او المرضى الذين لقي الكثيرون منهم نحبهم لصعوبة التفكير في نقلهم الى مستشفيات عمان، حتى ولو كان أولادهم أو أقاربهم من «أصدقاء الرئيس». فالمسافر يضطر الى قضاء ساعتين على الأقل عند نقطتي الحدود الاردنية والعراقية حتى يتسنى له اكمال اجراءات السفر.

ونقطتا الحدود الأردنية والعراقية، يمكن القول انهما المكانان الوحيدان، قبل الوصول الى محطة الاستراحة الـ160 كلم (في العراق)، اللتان بامكان المسافر التوقف عندهما لتناول الطعام أو الاستراحة وشرب الشاي قبل استكمال رحلته. ومنذ بدء الحصار وتحول عمان الى الطريق الرئيسية الى الدولة العراقية فتحت الكثير من المحلات والمطاعم والمقاهي ابوابها، فضلا عن تحولها، على الجانب الأردني، الى مجمعات سكنية تعيش من حركة الترانزيت النشيطة. وليس غريبا ان معظم المسؤولين عن هذه المشاريع التجارية يحبذون لو يستمر الحظر الجوي الى ما لا نهاية لتستمر تجارتهم، شأنهم في ذلك شأن مئات من سائقي الصهاريج الأردنيين الذين اذا جرى مد خط أنابيب نفط بين الدولتين سيدفع بهم الى تعزيز صفوف العاطلين. هكذا، استمرت رحلتي على الأنغام التي اختارها السائق لركابه الثلاثة، ودخلنا بغداد ليلا برفقة صوت كوكب الشرق ام كلثوم، لتستقبلنا نقطة تفتيش صغيرة نصبت عند مدخل العاصمة، حيث كانت تعلوها لافتة تقول: «هدية المهاجر». ولم يكن هناك شيء يدل على اننا دخلنا دولة تحت الحصار لولا ذلك الضوء اليتيم الذي يلمع في ظلمات الطريق التي تفتقد للانارة اللازمة، يوحي للسائق أن ما يضوي أمامه دراجة نارية ذات ضوء واحد وليس سيارة أو شاحنة بأربع عجلات وذات عدة أضوية. والانتشار الواسع للسيارات «المعتوهة»، الخردة اول ظاهرة يفاجىء بها الزائر. ودّعنا السائق الاردني محمد عند مدخل بغداد، كما تشير اليه التعليمات، لأنه ممنوع على السائقين الاردنيين دخول وسط المدينة، مثلما أنه ممنوع على السائقين العراقيين دخول عمان، لنتوجه بعدها بسيارة أجرة عراقية الى فندق الرشيد وسط المدينة ولتبدأ من ثم زيارتنا الاســـتطلاعية لبغداد.