الطلبنة.. من أفغانستان إلى السعودية..

TT

قد يستغرب البعض أن يختار الإرهابيون هدفاً سهلاً ومدنياً بالكامل لتنفيذ عمليتهم "الجهادية"، وذلك مثل مجمع المحيا السكني في وادي لبن في الرياض، أو التخطيط لتفجيرات في مكة المكرمة، أو غيرها من أهداف مدنية سهلة، كأي هدف مدني مكشوف.

الحكم الأخلاقي أو الديني على مثل هذه العمليات ليس كافيا، على أهميته، فمثل هذا الحكم قد يُدين ولكنه لا يفسر لماذا كانت مثل تلك المواقع أهدافاً مختارة. فمن الحرام والإجرام دينياً وأخلاقياً أن تُقتل أنفس بريئة لا ذنب لها ولا جريرة، فمن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. فنفس واحدة تعادل كل أنفس العالم في ماضيه وحاضره، وهنا يكمن الإجرام فيما قام به الإرهابيون في مجمع المحيا وما قبل ذلك، وما سيقومون به بعد ذلك أيضاً. جريمة أخلاقية ودينية، لا شك في ذلك ومن أي زاوية قلبتها ونظرت إليها، وهذه مسألة لا تحتاج إلى نقاش أو إثبات في يقيني، فقدسية الإنسان عند رب الأرباب لا يعلوها أي قدسية أخرى.

ولكن يبقى السؤال الأهم: هل كان هؤلاء من الغباء، كما قد يتصور البعض، بحيث يختارون أهدافاً مدنية سهلة يحصدون فيها أرواح الشيخ والمرأة والطفل، ويثيرون الناس عليهم بدل أن يستدرون عطفهم وتأييدهم؟ أسئلة مشروعة، قد تدل بعض الأجوبة على غباء من قام بمثل هذه العمليات، ولكن الحقيقة التي يمكن أن تفسر مثل هذا الأمر أبعد من ذلك بكثير، وفي ظني على الأقل.

نحن لا نتحدث هنا عن منفذي هذه العمليات من شباب غض الاهاب، مغسول الدماغ، قد يكون عليل النفس، فاقدا لبوصلة الاتجاه، متعطشا لمتع الجنة وحورها العين بأسرع ما يمكن ودون رغبة في انتظار، بقدر ما نتحدث عن المخططين والموجهين لمثل هذه العمليات في الكهوف والمغاور والشقق المغلقة والبيوت المحمية في عواصم العالم. مثل هؤلاء ليسوا من الأغبياء، فهم يعلمون أن مثل هذه العمليات قد تثير عليهم الرأي العام، وقد تُفقدهم بعضاً من التعاطف الذي أحرزوه، حين كانت أهدافهم عسكرية أو شبه عسكرية، أو موجهة ضد طرف غير عربي أو مسلم، وتتم تحت راية نصرة الإسلام والجهاد ضد الكفر والكافرين، بالرغم من زيف كل هذه الشعارات. هؤلاء المخططون لهم أهداف سياسية بعيدة المدى حين يقومون بمثل هذه الأعمال في بلد مثل السعودية، وليس ضمن أهدافهم والحالة هذه كسب تأييد شعبي أو تحقيق هدف ايديولوجي، بقدر ما أن المهم هو تحقيق هدف سياسي ليست هذه العمليات إلا تمهيد له وإعداد. هذا الهدف، وبكل بساطة، هو إعادة بعث طالبان ونظامها، ولكن على أرض الحرمين هذه المرة وليس في أفغانستان، لما في ذلك من فوائد جمة قد لا تتوفر، أو أنها لم تتوفر، حين كانت الطالبانية ناشرة أشرعتها على أجواء أفغانستان.

فمن ناحية، فإن تكون السعودية، أو جزيرة العرب وأرض الحرمين كما يفضل أن يسميها منظروا هذا التيار، هي "قاعدة" انطلاق العمل "الجهادي" ضد اليهود والنصارى، له من القيمة المعنوية والرمزية أكثر مما لو كانت تلك القاعدة في أفغانستان أو أي بلد آخر في العالم. فوجود الحرمين الشريفين في السعودية يجعلها ذات جاذبية خاصة لكل المسلمين، وبالتالي فإن من يسيطر عليها إنما هو يسيطر روحياً على كل عالم الإسلام، وهذه نقطة في غاية الأهمية حين يتعلق الأمر بـ"الجهاد" ضد اليهود والنصارى، حيث تُجير هذه السيطرة الروحية إلى محرك معنوي للجماهير في أنحاء عالم الإسلام. من ناحية أخرى، فإن الأهمية الرمزية للسعودية تتجلى في كونها تضم أول دار للهجرة، أي المدينة المنورة، وبالتالي فإن السعودية تتحول، حين تحقيق الهدف، إلى دار هجرة جديدة، بنفس الزخم الرمزي لدار الهجرة الأولى، قادرة على استقطاب "المجاهدين" من كل أنحاء العالم، وبشكل يفوق ما كان يتم في أفغانستان، الخالية من أي بعد رمزي. وأخيراً، وليس آخراً بطبيعة الحال، فإن السعودية تتمتع بمزايا أخرى لا توجد في أفغانستان، أو القاعدة الأولى التي لم يتم لها النجاح. فهي تتحكم بجزء كبير من سلعة استراتيجية يعتمد عليها كل العالم، أي البترول، وبالتالي فإنها حين تصبح قاعدة للعمل "الجهادي"، فإنها والحالة هذه قادرة على التحكم في شريان مهم من شرايين الحياة في العالم المعاصر، وهذا عامل قوة مضاف يدخل في قاعدة "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". كما أن الموقع الاستراتيجي للمملكة في قلب عالم الإسلام، وإشرافها على عدة منافذ بحرية، على عكس الحال في أفغانستان، يجعلها نقطة تحرك وانطلاق لا يمكن أن تُضاهى بأفغانستان أو غير أفغانستان. تتضافر كل هذه العوامل، من روحي ورمزي واقتصادي واستراتيجي، لتجعل من السعودية "البؤرة" المثالية لانطلاق العمل "الجهادي"، وذلك وفقاً لمرئيات مخططي ذلك العمل.

من هنا يمكن أن نفهم إلى حد كبير دوافع وأهداف الأعمال الإرهابية في السعودية خلال الفترة الأخيرة. فالهدف الأخير لمثل تلك الأعمال هو إسقاط النظام السياسي، أو لنقل إسقاط الدولة السعودية برمتها، إذ بدون ذلك فإنه لا يمكن أن تتحقق أهداف تحويل أرض الحرمين إلى قاعدة انطلاق للجهاد ضد اليهود والنصارى ومن كان على شاكلتهم، أي كل من لا ينتمي إلى فسطاط الإيمان وفق فهمهم. ولإسقاط الدولة السعودية ونظامها السياسي الحاكم، فإنه لا بد من الدخول في لعبة سياسية يُسحب من خلالها كل ما يمكن أن يتمتع به النظام من عوامل قوة، حتى يُصبح عارياً تماماً، وفق مرئياتهم، ومن ثم ضرب الضربة الأخيرة التي توصلهم إلى سدة الحكم، وهذا يستلزم القيام بعدة أمور. فمن ناحية، فإن خلق حالة من الفوضى العارمة، التي تؤدي بدورها إلى حالة من عدم الاستقرار تتزايد حدتها بتزايد العمليات "الجهادية" وما شابهها، مسألة في غاية الإلحاح. عملية هنا وعملية هناك، وليس مهماً ماهية الهدف ومدى ارتباطه بالشعار المرفوع في محاربة الكفار ومن والاهم، بقدر ما أن المهم هو استمرار الزخم واستمرار العمليات. كان لا بد لهم بعد عملية الثاني عشر من مايو أن يقوموا بأعمال أخرى متتابعة لضمان تحقيق الهدف، وقد حاولوا القيام بعمليات أخرى كثيرة، لم ينجح منها إلا عملية الثامن من نوفمبر الأخيرة. بل أنه حتى محاولات التظاهر الأخيرة يمكن أن تدُرج ضمن هذا الهدف. فنعم، قد يعتبر البعض أن التظاهر والمظاهرات قناة من قنوات التعبير عن الرأي والحاجة، وانها حق مشروع للمواطن في التعبير عن نفسه، ولكن الذي حدث من مظاهرات في المملكة في الآونة الأخيرة لم يكن تظاهراً، بقدر ما كان تهييجاً مقصوداً من البعض، مستغلين في ذلك حاجة البعض وظروفهم الصعبة، ولم يكن الهدف هو المطالبة بحاجات معينة بقدر ما كان وسيلة من وسائل زعزعة الاستقرار، وأكثر من كان في تلك المظاهرات لا يعلمون، بمثل ما أن شباب "الجهاد" لا يعلمون بما يُخطط بعيداً عنهم. فالمتظاهرون و"المجاهدون" ما هم في نهاية المطاف إلا بيادق مُحركة على رقعة شطرنج، بينما اللاعبون الحقيقيون هم من يحرك هذه البيادق.

ومن ناحية أخرى، فإنه يجب إظهار النظام بمظهر العاجز عن حفظ الأمن، وبالتالي ضربه في واحد من أعز أركان شرعيته، ألا وهو تحقيق الأمن والأمان. فالشرعية السياسية للدولة السعودية إنما تقوم على ركنين رئيسيين هما الدين والأمن. فإذا ما تم ضرب هذين الركنين بشكل خاص، انهارت هذه الشرعية، وفق ما يخطط له أمراء "الجهاد" في تورا بورا والعواصم الأوروبية. فحين يُرفع شعار طرد المشركين من جزيرة العرب، فإن الهدف هنا هو زعزعة الشرعية الدينية للدولة السعودية، أو التشكيك فيها في أسوأ الأحوال. وسيبقى هذا الشعار مرفوعاً حتى لو لم يكن هناك مشرك واحد في الجزيرة، على افتراض الاتفاق على معاني الكلمات.

فالهدف ليس دينياً خالصاً لوجه الله، حتى لو كانت القراءة غير سليمة، بقدر ما أنه هدف سياسي بعيد المدى يتعلق بشرعية الدولة القائمة في جزيرة العرب. وحين يُستغل حماس الشباب ومشاكلهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية للقيام بعمليات إرهابية، يعتقدون أنهم من خلالها سوف يحلون كل مشاكلهم وبطرفة عين، في جنة دنيا أو جنة آخرة، فإن الهدف ليس إصلاحياً، بغض النظر عن الاختلاف حول معنى الإصلاح، بقدر ما أنه موجه لضرب الركن الثاني من أركان شرعية الدولة، أي الأمن. من هنا يمكن أن نفهم ما كان يُدبر بليل في مكة مثلاً، حيث أن مثل هذا الأمر لو نجح، فإنه ضرب لعصفورين بحجر واحد: زعزعة الركن الديني للشرعية، من حيث البرهنة على عجز الدولة على حفظ أمن قاصدي بيت الله الحرام الذي تقول بخدمته، وزعزعة الركن الأمني من حيث عدم قدرة الدولة على حفظ الأمن بشكل عام، وهو الهدف الرئيس من وراء عمليات الرياض.

تعرية الدولة محلياً وإسلامياً ودولياً، هو الهدف الذي يقف وراء العمليات الإرهابية الحالية في السعودية. فعندما يفقد المواطن الثقة في الدولة داخلياً، وتفقد الدولة رمزيتها الدينية إسلامياً، وتنهار الثقة في نظامها عالمياً، تصبح الأمور ميسورة للاستيلاء على صولجان الملك وخاتم الحكم بهذه الوسيلة أو تلك، وخاصة حين يُتخلى عنها دولياً نتيجة عدم الثقة بقدرتها على السيطرة على الأوضاع. بل وربما يكون هذا الاستيلاء أو الانقضاض بمباركة معينة من هنا أو هناك، حين تُلعب لعبة سياسية أخرى مع اختلاف الحال، وفق تصورات المخططين. ومن هذه النقطة نستطيع أن نفهم لماذا كثرت تلك المشاريع التي تُطالب بالوساطة بين الدولة و"المجاهدين"، حيث بات هناك تصور بأن الدولة قد بدأ يصيبها الوهن، وبالتالي حان الوقت لجني مكاسب سياسية مهدت لها مكاسب عسكرية معينة. ولو أن الدولة رضخت لمثل هذه الدعوات، فإنها تكون قد أكدت الأمر، أي الوهن، وبات الطريق ممهداً بالفعل لجني مكاسب الإرهاب. ولكن الدولة رفضت مثل هذه الدعوات، ولذلك فمن المتوقع حدوث عمليات إرهابية في القريب، وعلى أهداف مدنية سهلة، وذلك لإبقاء زخم "الجهاد" مستمراً، وتحقيق الغاية التي اعتقد البعض واهمين أنها باتت وشيكة.