"خريطة طريق" لمستقبل المنطقة

TT

انضمت كل من الدانمارك والأردن الى الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب حتى قبل وقوع هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001. وكما اوضحنا ان هذا الاتحاد يجب ان يطبق نفس القوة والفعالية والتركيز سعيا للسلام والتنمية على نفس النحو الذي نتبعه في تعقب المتطرفين.

ومثلما تسير عملية إعادة اعمار العراق في خط مواز مع الحملة الدولية ضد تنظيم "القاعدة" وعناصره، يجب ايضا ان تسير عملية السلام بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني مع شن حملة متشددة على المتطرفين في الجانبين. واذا كانت عمليات تعقب اسامة بن لادن وبقايا نظام طالبان لم تمنعنا عن إعادة اعمار افغانستان، فإن الجهود الهادفة الى وقف العمليات الانتحارية وعمليات الاغتيال التي تستهدف اشخاصا محددين والتحريض لا ينبغي ان تكون ذريعة لتأخير التسوية السياسية بين شعبين تؤيد غالبيتاهما الحل القائم على اساس وجود دولتين تعيشان الى جانب بعضهما بعضا.

خطة "خريطة الطريق" للجنة الرباعية للسلام في الشرق الاوسط مهدت الطريق للتوصل الى حل دائم قائم على اساس وجود دولتين شريطة اتخاذ خطوات موازية ومتبادلة من جانب الاطراف لإنهاء الارهاب والعنف والتحريض وتمهيد الطريق بالتالي أمام حل سياسي سلمي دائم. ففي يونيو (حزيران) الماضي التزم خلال قمتي شرم الشيخ والعقبة كل من رئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمود عباس (ابو مازن) ورئيس الحكومة الاسرائيلية آرييل شارون ببذل كل الجهود لتحقيق السلام وذلك بحضور الرئيس الاميركي جورج بوش والعاهل الاردني الملك عبد الله الثاني الى جانب قادة آخرين. تغلب الأمل في ذلك الحين على اليأس والإحباط ولكن لفترة قصيرة فقط.

بيد ان حركة السلام كانت اكثر بطأً من اعمال الارهاب والانتقام. فاتفاقيات وقف إطلاق النار لم تلق مراقبة وتطبيقا كافيين، كما ان الانتهاكات التي تحدث عنها كل جانب لم يمكن إثباتها مما فتح الباب واسعا أمام تواصل دورة العنف بلا توقف تقريبا. اما ما يحدث الآن، فلا يعدو ان يكون شللا تاما لعملية السلام اصبح معه الاحباط هو المسيطر. وفي الوقت نفسه تعرض الاسرائيليون والفلسطينيون الذين أقدموا على الالتقاء لمناقشة تسوية نهائية للاتهام بالخيانة.

ثمة محادثات غير رسمية مطلع هذا الشهر بين شخصيات اسرائيلية وفلسطينية بارزة اسفرت عن اتفاق غير رسمي اطلق عليه "اتفاق جنيف"، كما ان هناك عريضة مطالبة بالسلام قيد الإجراء الآن تحمل توقيع ستين الف فلسطيني ومائة ألف اسرائيلي. إلا ان المبادرتين قوبلتا بشيء من التهكم، ليس في منطقة الشرق الاوسط وحدها بل حتى في الولايات المتحدة وأوروبا. إلا ان آفاق ومستقبل السلام، رغم المشقة والصعاب، في حاجة الى التشجيع والتحفيز وليس التهكم والسخرية.

وبوصفنا وزيري خارجية بلدين، توصلنا الى ان لدينا منظورا تاريخيا مشتركا ازاء المخاطر الناجمة عن النزاعات الاقليمية وأهمية التعاون والحوار كوسائل حاسمة لتحقيق سلام دائم في المنطقة. فمثل هذا السلام لا يكون دائما إلا إذا كان بين الشعوب وليس فقط بين الدول. ففي القرن الماضي شهدت الدانمارك وحشية حربين عالميتين، وتعرضت للاحتلال الألماني لمدة خمس سنوات، وظلت على جبهة الحرب الباردة لمدة خمسين سنة. وفي السبعينات كانت هيئة الامن والتعاون في اوروبا، التي سبقت منظمة التعاون والأمن في اوروبا، عاملا اساسيا في دفع دول الكتلة السوفياتية الى المشاركة في مباحثات حول عدد من القضايا، مثل الحريات المدنية وحقوق الانسان. وبعد انهيار الستار الحديدي، عملت الدانمارك بنشاط لتجنب ظهور خطوط انقسامات جديدة في اوروبا، عن طريق الضغط من اجل انضمام دول الكتلة الشرقية السابقة الى الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي.

وخلال نصف قرن، انتقل الاردن من الحرب الى السلام تحت قيادة العاهل الراحل الملك حسين. وحقق الملك حسين السلام مع شخص آخر يملك خبرة في الحرب هو رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحاق رابين. وكان الرجلان يعرفان معرفة جيدة أخطار الحرب التي لا تنتهي لمستقبل شعبيهما، فقد خاطرا من اجل السلام، ودفع رئيس الوزراء رابين حياته ثمنا لذلك.

وفي عام 1998 عندما اقتربت المناقشات بين الاسرائيليين والفلسطينيين من الانهيار، اعتقد الملك حسين، الذي كان يعالج آنذاك من حالة متقدمة في السرطان، ان السلام مهم بدرجة كافية لوقف علاجه في مستشفى مايو كلينك في مينسوتا والسفر الى واي، بولاية ميريلاند لإقناع كل من الطرفين بالتوصل الى اتفاق.

ومن المفهوم جيدا ان الشعوب التي تعيش حالة دائمة من الخوف وعدم الامن، تفقد رؤية الهدف الاسمى، الذي تفضله الاغلبية في الجانبين بوضوح. ولا يوجد سبب مشروع لكي يفقد المجتمع الدولي موضوعيته. ونعتقد ان مهمتنا كأصدقاء وحلفاء، هي المساعدة في استعادة الامل وتأكيد التزامنا "بخريطة الطريق" في الوقت الذي نضمن فيه عدم السماح لأي من الجانبين بتصرفات فردية تعطل مسيرة السلام.

لقد ذكر بعض الناس ان الوقت الحالي ليس الوقت المناسب لمتابعة السلام. وفي رأينا، توجد، دائما حجج، ولكن لا توجد ابدا اسباب للتنصل من مسؤولياتنا كمجتمع للدول المتحضرة.

وربما يمكن لهؤلاء الذين يحملون مؤشرا للسلام ان يقرروا متى بالضبط يمكننا التقدم. هل نسمح للمتطرفين بتقرير الجدول الزمني للسلام، كما يبدو الامر في ما يتعلق بالنزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني؟ هل نسمح لهم بتحويلنا الى رهائن كما يفعلون مع سكانهم؟ هل نسمح للايديولوجيات المتطرفة بالحلول محل العمل المنطقي في الجانبين؟ هل نؤخر العملية بدرجة كافية لكي نستهزئ بالحل القائم على اساس إنشاء دولتين، بحيث يصبح منطق "كل شيء أو لا شيء" هو النتيجة النهائية، وهذه رغبة يشترك فيها المتعصبون في الجانبين؟ هل نقف صامتين بينما جيل اخر يولد وسط النزاع على قناعة بأن الطرف الآخر يتآمر لطرده؟

ان كلا منا يعتقد ان الوقت قد حان لإعادة إحياء "خريطة الطريق". ان الحوار بين الطرفين لا بد ان يستمر، ويجب تسوية الخلافات عبر طاولة المفاوضات وليس في الشوارع. ويجب على الجانبين في الوقت نفسه تطبيق التزاماتهما من اجل الوصول الى صيغة الدولتين بحلول عام 2005، وهو الموعد النهائي الذي اكده الرئيس جورج دبليو بوش في العام الماضي والذي نصر على الالتزام به. وفي الوقت ذاته يجب على اللجنة الرباعية وحلفائنا العرب إقناع الاطراف بالتغلب على العقبات وهزيمة اجندة المتطرفين الذين سيجهضون السلام وآمال الملايين.

وفي الوقت الذي يواجه فيه الزعماء الإسرائيليون والفلسطينيون مخاطر حقيقية لإحراز بعض التقدم، على المجتمع الدولي، وخاصة الأطراف العالمية في "خريطة الطريق" (الإتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الأمم المتحدة، وروسيا) أن تتحمل مسؤولياتها وتبتدع آلية للمراقبة الدولية تحدد درجة الالتزام بـ"خريطة الطريق"، وتحدد للأطراف التزاماتها تجاه تلك الخريطة. ونحن مستعدان لدعم مثل هذه الآلية. ولكن التطبيق الكامل لخريطة الطريق ما يزال في مراحله الأولى. وتنظر الدانمارك إلى التزاماتها تجاه هذه الخطة، باعتبارها جزءا من مشروع أوسع للتعاون على أسس ثنائية، ومن خلال الاتحاد الأوروبي، مع دول المنطقة مثل الأردن.

ومثلما أدى التوسيع وإجازة اتفاقية جديدة إلى إحداث تغيير جوهري في طبيعة الاتحاد الأوروبي، فإن هناك أفكارا يجري تداولها حاليا في الشرق الأوسط حول المستقبل الاستراتيجي للمنطقة ككل. ويمثل هذا جزءاً من عملية متصلة، نتمنى أن تتمخض عن نتائج محددة. وفي الوقت نفسه الذي نبحث فيه عن حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فإننا نختبر أفكارا عديدة لتيسير الحوار بين دول الشرق الأوسط نفسها. وهذا هو ما حدا بقادة دول الاتحاد الأوروبي وحكوماتها الى أن يجددوا في قمة بروكسل، قبل ثلاثة اسابيع، التزامهم بإجراء مزيد من الحوار مع الدول العربية، وتطوير استراتجية جديدة للعلاقات مع هذه الدول بنهاية هذا العام.

وهناك عدد من الآليات المفيدة والعاملة حاليا على المستوى الإقليمي، مثل عملية برشلونة لدول البحر الأحمر الابيض المتوسط، وإطار مجلس التعاون الخليجي في منطقة الخليج.

ولكن رغم انتشار المنظمات الثنائية والمتعددة الأطراف، فإن منطقة الشرق الأوسط تفتقر إلى ما يتوفر في كل اقاليم العالم الأخرى، أي الى نوع من الآلية التي يمكن أن تناقش فيها القضايا الأمنية "الناعمة" مثل التنمية الاقتصادية، على سبيل المثال، علاوة على القضايا الامنية "غير الناعمة" مثل انتشار الاسلحة. ولحسن الحظ فإن الحوار دائر حاليا حول مثل تلك الآلية على جانبي المحيط الأطلسي.

في يومي 20-21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، استضاف الأردن الاجتماع السنوي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، مع شركائها في حوض البحر الأبيض المتوسط للتداول حول تجارب المنظمة التي يمكن أن تكون مفيدة للشرق الأوسط. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تجتمع فيها المنظمة في الشرق الأوسط. وكانت تلك خطوة أولى مهمة بحق. وما نزال نتداول حول النماذج الملائمة للحوار بين الحلفاء العرب والأوروبيين والأميركيين. وسيتعين على مثل هذا النموذج ان يستند إلى إعلان أو ميثاق، تصوغه دول المنطقة ويدعمه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وسيكون هذا إطارا عاما مشتركا، ومنظومة من المبادئ تلتزم به كل الدول. كل هذا يمثل جزءا من بنية كلية، أي خريطة طريق لمستقبل المنطقة، ومعبرا إلى الأمن والسلام والرفاه.

إن الإصرار الذي نبديه في انتزاع عملية السلام من براثن المتطرفين سيحدد مدى نجاحنا أو فشلنا في جمع كل الأطراف لتركز على أهدافها المشتركة. ولا شك ان المصداقية التي نتحلى بها ستكون مهمة جدا في مجهوداتنا لبناء تحالف من أجل السلام، كما فعلنا في حربنا ضد الإرهاب. وقد عبر رئيس الوزراء الراحل رابين عن ذلك بصورة بليغة عندما قال: "سنعمل من أجل السلام، وكأنما لا يوجد إرهاب، وسنحارب الإرهاب وكأنما لا يوجد سلام".

* وزيرا خارجية الأردن والدانمارك ـ حق النشر بالعربية خاص بـ"الشرق الأوسط"