ليس وقت الدستور الدائم بعد

TT

حقق مجلس الحكم العراقي انجازا كبيرا باذعان سلطة الاحتلال لمطالب معظم اعضاء المجلس بتسريع عملية نقل السلطة الى الشعب العراقي ووضع جدول زمني لانهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة اللذين اطاحتهما سياسات نظام صدام حسين.

فحتى اسابيع قليلة لم تكن سلطة الاحتلال تكترث كثيرا لتلك المطالب، مزهوّة بنصرها السريع على نظام صدام ومعوّلة على قوتها العسكرية التي قلنا تكرارا ـ ومعنا الكثيرون ـ ان ليس في وسعها، حتى لو تضاعف عديدها، ان تثبّت الأمن الداخلي بملاحقة افراد العصابات وعتاة المجرمين المحترفين الذين اطلق صدام سراحهم عشية الحرب، والسيطرة على عناصر الارهاب الداخلي من فلول نظام صدام، ومنع تسلل الارهابيين الاجانب عبر الحدود، فهذه المهمة ـ كما ادارة البلاد برمتها ـ لا يقدر عليها إلا العراقيون، فضلا عن انها حق مطلق لهم وواجب عليهم.

وثمة انجاز كبير آخر تحقق في الاتفاق المعقود بين المجلس وسلطة الاحتلال تمثل في صرف النظر في الوقت الحالي عن الاعداد لدستور دائم والعمل ـ بدلا من هذا ـ على تشريع قانون اساسي انتقالي (دستور مؤقت) للفترة الانتقالية الراهنة.

وبهذا يكون المجلس قد نزع فتيل ازمة سياسية داخلية كانت ستتفاقم وتشتد لا لتنفرج، بل لتنفجر صراعا دمويا ذا طابع مركب، قومي وطائفي وسياسي، ما يؤدي، في أخف عواقبه وطأة، الى اطالة أمد الاحتلال.

خلال اربعين عاما متصلة (منذ انقلاب شباط 1963 البعثي ـ الناصري) حدثت تشوهات هائلة في البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية في العراق، فلقد ارتد المجتمع العراقي في قيمه السائدة وتراجع مستواه الحضاري، وهو يحتاج الى بعض الوقت لكي يتعافى مما فتك به من امراض اجتماعية ونفسية وسياسية توطنت فيه بفعل الطغيان الدكتاتوري والحروب الطويلة.

ليس من الحكمة ولا من مصلحة الشعب العراقي سن دستور دائم الآن. فالأم العليلة لا يمكن ان تلد طفلا في كامل الصحة والعافية. والدستور الدائم الذي يشرع الآن في العراق لن يكون تاما وكاملا وسليما ما دام المجتمع العراقي في حال الشواش والاضطراب وعدم الشعور بالأمن.

في العراق تكاد تجمع كل القوى والمنظمات والشخصيات السياسية والاجتماعية على ان حل المشكلات المعقدة والمزمنة في البلاد يكمن في اقامة النظام الديمقراطي الفيدرالي. وهذا يحتم تشريع دستور دائم ديمقراطي علماني يكرس تداول السلطة سلميا والمساواة في الحقوق والواجبات بين كل العراقيين على اختلاف قومياتهم ودياناتهم ومذاهبهم وعقائدهم السياسية، ويضمن ممارسة الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والنشاط السياسي والنقابي، ولا يميز بين الرجال والنساء في هذه الحقوق والواجبات، ويحترم حقوق الانسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للافراد والجماعات، ويفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويفصل بين الدين والدولة لضمان ممارسة العقائد والشعائر الدينية في حرية تامة من دون استغلال الدين سياسيا او السياسة دينيا، كما كان يجري في السابق، ويجسد الواقع القومي المتعدد للعراق وينص على مبدأ الحق في تقرير المصير لكل جماعة قومية.

ودستور كهذا لا يمكن تشريعه في عجالة، ولا يمكن انجازه تحت وطأة السباق مع الوقت. فلا بد من استعادة الأمن والاستقرار واجراء احصاء سكاني سليم وانتخاب مجلس تأسيسي يقترح نص الدستور على الشعب ليناقشه في هدوء وبمسؤولية.

نخشى إن شُرِّع دستور دائم، الآن أو بعد عام، ان يأتي ناقصا او ان يكرس الحال المريضة للمجتمع العراقي في الوقت الراهن، حيث يسود الجهل السياسي والقيم الطائفية والقومية (العنصرية) والعشائرية.

[email protected]