يترأف البحر بسعف النخيل

TT

اشاهد الشاعر قاسم حداد في المؤتمرات الثقافية احياناً وفي البحرين احياناً، ويخيل اليَّ دائماً انني ارى طيفاً. وعندما يصافحني ويمضي، يخيل اليَّ انني صافحت ظلاً لرجل لا وجود له. وهذه طبعاً عادة بحرينية شائعة: ان يغلب التهذيب على الوجود، والطيف على الحقيقة. وتتبعت سيرة قاسم حداد وأعماله الشعرية ومنها اسم ابنته البكر «طفول». وقد عاش قاسم حياة صعبة لعلها هي الاخرى جزء من شاعريته او على الارجح سبب لها.

كانت المحرَّق في الماضي قرية على كتف المنامة، التي لم تكن هي ايضاً سوى بلدة صغيرة. واصبحت المحرَّق اليوم امتداداً للمنامة واصبحتا معاً مدينة كبيرة ترتفع فيها الشواهق وتمتد فيها الطرقات الواسعة. وقد كتب عن زمن الطفولة في المحرّق كثيرون، في طليعتهم يوسف الشيراوي ومحمد جابر الانصاري. وها هو قاسم حداد، الاصغر سناً، المولود 1948، يكتب بدوره عن الطفولة الرخصة والحالمة في المحرَّق. وتبدو الاربعينات والخمسينات في سيرته وكأنها من عصر آخر لا من عقد آخر. ويختلط هنا الشاعر بالناثر، ويستكملان. وكنت اسمع شفاهياً الكثير عن علاقة البحريني بالبحر. وقد سألت مرة احد اصدقائي، كيف تقضي عطلة الاسبوع، فقال لي «ان البحريني ما ان يضع قدمه خارج المنزل حتى تصبح في البحر». الا انني الآن اقرأ في نص قاسم حداد ذلك الوصف البدائعي لعلاقة المواطن بالبحر: «منذ ان خرجت من حدود البيت متعرفاً على اطراف مدينة المحرق، كنت اصادف البحر في كل مكان. فكل طرق المحرَّق سوف تبدأ بالبحر وتنتهي به كل يوم. كأن ثمة كائناً ازرق ينتظر الجميع في كل مكان.

نرى فقراً في سيرة قاسم حداد. وبساطة. ونرى فيها متعة الصدق والوقار والطبائع الحسنة بين الناس: «لقد كان البحر كائناً كليَّ الوجود بالنسبة لنا. والذين عاشوا في اطراف القرى والمدن التي تطل بيوتها مباشرة على البحر، يتذكرون الزيارة الشهرية التي يقتحم فيها البحر البيوت مثل ضيف متوقع. كانت معظم البيوت الشعبية الكائنة على الساحل مبنية من سعف النخيل. ولفرط الاتصال الحميم بين الانسان والبحر لن تكون هناك موانع تحول دون دخول البحر الى تلك البيوت وقتما يحلو له ذلك.

كان البحر يأتي الى بيوت السُعف ثم يعود الى بيته الكبير. «بيت البحر»: «فبعد ساعات قليلة سوف ينسحب البحر نحو بيته. وربما اعتبروا زيارة البحر لبيوتهم رداً كريماً على زيارة اهالي المحرَّق الدائمة للبحر طوال المواسم، نزهة وصيداً وابحاراً وسفراً ومباهاة. لقد كانت تلك ايام دخول البحر في الناس».

لا ادري ان كان قاسم حداد يكتب سيرته ام سيرة المحرَّق ام سيرة البحرين. لكنه نص جميل، خفير، وفيه شيء من الورع. وقد برز البحر في الادب الخليجي وفي الفنون وفي التراث الشعبي، كبطل او كانسان، او كشريك في الحياة. بل كمورد اساسي لها. ومع ان اكثر الخليجيين عاشوا ردحاً على صناعة الغوص وتجارة اللؤلؤ، الا ان مرعى اللآلئ الاساسي كان في البحرين. وعن هذه الحياة التي يغيب فيها الآباء طويلاً خلف المياه في الرطوبة والتعرق يكتب قاسم حداد الروايات والحكايات والاساطير والاناشيد. ويصف لنا كيف كانت النسوة يقدمن النذور كلما طال غياب البحارة على ظهور المراكب وفي اعالي البحار.

عرفت البحرين منتصف الستينات، عندما كانت تخرج لتوِّها من عصر الغوص. وكانت المنامة والمحرق عنوانين بريديين في بلد جميل يحبو نحو الحداثة والكفاية. ولا شك انه بالغ الحظ. ففي زمن القحط كان مرعى اللؤلؤ وسهل المرجان، واليوم عنده شعراء يسجلون الصفحات المطوية بماء ازرق شفاف ويكتبونها على سعف النخيل ويكتبون الماضي بزرقة البحر.