العربة والحصان

TT

طالما سمعت من القراء انني اكتب وكأنني اتكلم من قلوبهم وبلسانهم. الحمد لله الذي جعلني صوتا لهم وليس صوتا للحاكم. وطالما اصبحت صوتا لبسطاء الناس فأتذكر انني في صباي كنت اسمع منهم يترحمون على ايام الانجليز. بالطبع نحن كنا نسخر بكلامهم ونعتبرهم جهلاء. ثار الوطنجية على الانجليز وحصلوا على الاستقلال. حكم الانجليز العراق من 1917 الى 1932. وطوال هذه السنوات لم يسجل التاريخ اي سرقات او اختلاسات او رشوات او محسوبيات اتهموا بها. حتى العراقيون الذين عملوا تحتهم التزموا بالنزاهة. السرقة الوحيدة التي نسبت للانجليز كانت ان احد موظفيهم، المستر كوك، سرق قطعة اثرية صغيرة مما عثر عليه مؤخرا واخذها معه الى بريطانيا. هكذا اشيع وكذب الرجل الشائعة.

في 1932 نال العراق استقلاله، وبه بدأ السجل الطويل من السرقات والرشوات والمحسوبيات. ولكن البلاد ظلت نسبيا آمنة مستقرة ملتزمة بالشرعية تحت الهيمنة البريطانية غير المباشرة. في 1958، ثار الوطنجية مرة ثانية وقاموا بتصفية بقايا هذه الهيمنة. ومن حينها دخل العراق في هذه الدوامة من المصائب التي انتهت بكارثة صدام حسين وتحولت البلاد من دولة رخية الى دولة مفلسة في ذمتها نحو ثلاثمائة مليار دولار من الديون وتحت ترابها رفات مليون شهيد.

لو كان العراق شركة تجارية ووجد صاحبها شركته آلت الى هذا المصير لما تردد قط في الجري الى من أسسوها ليتوسل بهم ان يعودوا الى ادارتها وانتشالها من افلاسها، كل ذلك اذا لم يكن الرجل مجنونا لا يملك ذرة من العقل.

ولكن الوطنجية والقومجية عادوا طوال العالم العربي والاسلامي الى صراخهم. العزة والكرامة! الجلاء والاستقلال. حكومات لم تمارس الانتخابات الحرة طوال تاريخها اخذت تطالب التحالف باجراء انتخابات في العراق وتسليم الحكم لابناء البلاد وارادة الشعب.

حسنا. لا اطيب عندي من الاحتكام لارادة الشعب. يجري في العراق ما يصفونه بوضع العربة امام الحصان. يقوم الآن نفر غير مختصين بالقانون الدستوري ولا اي قانون، ولم يقضوا من حياتهم في العراق غير ايام صباهم بكتابة دستور للشعب العراقي، ولكن من عرفهم بما يريده الشعب العراقي؟ المفروض في اي عرضحلجي ان يسأل اولا الزبون عما يريده ثم يكتب له عريضته، لا ان يكتب له العريضة اولا ويقول له هذه مطالبك.

اول سؤال يجب ان نستفتي به الشعب هو هل تريدون حقا حكومة وطنية أم ادارة اجنبية من احدى الدول ذات الخبرة والمؤهلات في الموضوع. ثم يعطى الجمهور قائمة بأسماء الدول المرشحة. ما هذا بالهزل او المزاح. فقد عرض ذلك على الكثير من المستعمرات، كجبل طارق، وصوت الجمهور بجانب الحكم البريطاني لهم. ولم اسمع احدا يقول ان سكان جبل طارق يعانون المذلة او العبودية او الفساد او الاضطهاد بسبب ذلك. لقد زرت هذه المستعمرة ووجدت اهلها اكثر رفاها وكرامة وحرية من سكان اي دولة عربية زرتها. واذا لم اخطئ في تحسسي لهواجس الشعب فأعتقد انه سيصوت ضد الحكم الوطني، اذا ما طرح السؤال على كل الشعب بقراه وأريافه بدون ابتزاز وضغوط الوطنجية والاسلامجية.

واذا قرر الشعب تفضيل الحكم الوطني فيجب استفتاؤه فيما اذا كان يريد الجمهورية او الملكية. وعند ذلك توضع العربة وراء الحصان وليس امامه ويصار الى تحرير الدستور في ضوء ذلك. بالطبع لن يلتفت احد الى ما اقوله هنا. لماذا؟ لأنه ينطوي على الاحترام لارادة الشعب الحقيقية ولا احد غيري يريد ذلك. ولكنها نقطة ساعدتني على ملء عمود هذا اليوم وهو جل ما اصبح يعنيني في هذه الايام.