بوش ـ بلير .. حلف استراتيجي برغم الديمقراطية المنقوصة

TT

في وجه كل الاحتجاجات سارت قدماً زيارة الرئيس الاميركي جورج بوش الى بريطانيا، وما كان لها في الواقع الا ان تفعل. فجوهر العلاقة الاستراتيجية بين مؤسستي السلطة في الولايات المتحدة وبريطانيا أقوى من كل المؤثرات الخارجية او اختلاف التكتيك أو المزاج بين «سيد البيت الأبيض» والمقيم سعيداً في «10 داوننغ ستريت».

وما ثبت بالدليل القاطع بعد حرب احتلال العراق ان بين واشنطن ولندن غايات ومصالح مشتركة عميقة، بصرف النظر عن وجود تباين في التركيز واختلاف في اسلوب عرض السياسات وتقديمها بسبب التفاوت في حجم القوة والنفوذ بينهما.

لقد قيل الكثير عن ان «التقارب» ـ بل التلاصق ـ في المواقف بين ادارتي رونالد ريغان وجورج بوش «الأب» الجمهوريتين وحكومة مارغريت ثاتشر المحافظة «تقارب ايديولوجي». ثم قيل الشيء نفسه تقريباً عندما تولى الديمقراطي بيل كلينتون الرئاسة الاميركية وانهى العمالي توني بلير عام 1997 سنوات طويلة من الحكم المحافظ وازدادت مصداقية هذا القول عندما أطلق كلينتون وبلير ذات يوم ما سمي بـ«الطريق الثالث» بين اليمين المحافظ واليسار الاشتراكي.

الا ان الانسجام بين بلير وجورج بوش «الابن»، المصنف حتى على يمين ريغان، ينهي كل أوهام المثاليين الذين ما زالوا يزنون السياسة بميزان اللياقات الدبلوماسية وعباراتها المنمقة. وصحيح ان بلير عندما أيد حرب احتلال العراق حرص على ان يؤمّن لبوش ـ المتأهب للذهاب الى الحرب بمفرده ـ مبرراً يمكن تسويقه دولياً، وفق كلام سيدني بلومنثال (أحد كبار مستشاري بيل كلينتون السابقين). وكان موضوع «أسلحة الدمار الشامل» العراقية من بنات أفكار بلير ـ حسب كلام بلومنثال ـ بجانب ما هو معروف عن «النصح» البريطاني المستمر لبوش باللجوء الى الأمم المتحدة حيث يمكن داخل اروقتها لي أذرع المترددين وابتزاز الممانعين ومكافأة الراضخين. وفي هذا المجال تجدر الاشارة الى ان بعض متطرفي حزب المحافظين البريطاني لاموا بلير علناً على احراجه واشنطن ودفعها الى السعي لتفويض الأمم المتحدة «مع علمه المسبق» بالمواقف السلبية لفرنسا والمانيا وروسيا والصين ازاء هذا الموضوع.

على أي حال، اتضح لاحقاً للجميع ان قرار الحرب كان ـ خلافاً لما تكرر زعمه ـ متخذاً سلفاً، وان التأييد البريطاني الكامل لواشنطن كان مضموناً منذ البداية. وكل ما في الأمر ان بوش و«صقور» ادارته كانوا متعجلين بدء العمليات بـ«تحالف» او من دون تحالف، بينما كان بلير حريصاً على محاولة بناء أرضية تفاهم أوسع، لانه كان يدرك انه سيواجه بمساءلة داخلية أكثر نضجاً وموضوعية وشجاعة مما كان سيواجهه بوش، وبضيق اوروبي ساخط يشكك من جديد في مدى ولاء بريطانيا لهويتها الأوروبية.

وفي نهاية المطاف اتخذ قرار الحرب وكان، كما نعرف، قراراً أميركياً بحتاً مع غطاء بريطاني كامل. وكان هذا الغطاء بدوره ضرورياً على الدوام لدعم موقف أي رئيس أميركي، حتى داخل أميركا اذا حصل ما ليس في الحسبان، وأغفل آيديولوجيو واشنطن و«صقورها» تفاصيل دقيقة على الأرض قد تصبح قاتلة لاحقاً.

اليوم أكثر من أي وقت مضى تبدو أهمية هذا الغطاء البريطاني.

فالزيارة، التي كان مأمولاً منها ان تكون تتويجاً فخوراً لانجاز اسقاط نظام صدام حسين وبناء «شرق أوسط» جديد بمواصفات اميركية ـ بريطانية ـ اسرائيلية واعادة رسم الخريطة النفطية العالمية، تبدو في هذه الساعات حملة علاقات عامة ودعاية انتخابية من أعلى المستويات.

فهذه الحرب ما عادت «ذخيرة» مفيدة تلقائياً اذا ما استغلت في حملة انتخابات الرئاسة الاميركية المقبلة. وأكذوبة «استقبال المحررّين بالأحضان» صارت فاقعة جداً. ثم ان الاعلام الأميركي نفسه «تحرر»... فأخذ يشكك ويتساءل بعدما ظل لفترة طويلة مسكوناً بهاجس الطاعة العمياء احتراماً منه لذكرى ضحايا 11سبتمبر (ايلول) 2001 واستكانة لنفوذ «اللوبي» المسيحي المحافظ وحليفه الاسرائيلي الليكودي في الشارع ومجالس ادارة دور الصحف وشبكات التلفزيون.

ان المأمول من هذه الزيارة، او بالأصح الاصرار على اجرائها برغم الأجواء العامة المحيطة بها، محاولة اقناع الناخب الأميركي ان قيادته ما زالت تحظى بتأييد دولي من حلفاء أقوياء. ومع ان ثمة همهمات تسمع الآن في اوساط يمينية بريطانية ضد سياسات بوش الحمائية الاقتصادية التي أخذت تضر بالصادرات البريطانية، انبرت الحكومة البريطانية للدفاع عن «العلاقة الخاصة» بين واشنطن ولندن. فتوني بلير كرّر في غير مناسبة التشديد على اولوية هذه العلاقة في سياسة بريطانية نحو حلفائها... على حساب اوروبا. ووزير ماليته غوردون براون مضى ابعد من ذلك عندما رد بصورة غير مباشرة على انتقادات «مجلس الصناعة البريطاني» (الذي يمثل كبريات الشركات ولا سيما الشركات الصناعية) للسياسة الحمائية الاميركية بالقول ان لا علاقة للندن يمكن ان تعلو على تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن.

كيف ستكون ردات الفعل بعد انتهاء الزيارة؟

أغلب الظن انها حتى اذا جوبهت بمظاهرات حاشدة تشق طريقها الى شاشات التلفزيون الاميركية فهي لن تضر بشعبية بوش.

كذلك فهي لن تفيد بلير ولن تضره، لان المواطن البريطاني بات يعرفه جيداً، وما عاد بالامكان تحسين صورته او تشويهها سواء بسبب الموضوع العراقي اوالسياسة الاميركية.

على الصعيد الشخصي الصرف اذاً من المستبعد ان نحدث أي تغيير. الا ان هذه الزيارة، من جهة ثانية، ستعطي الناخب البريطاني فرصة التفكير جدياً بمدى التزام مؤسسة السلطة عنده بمفهوم الديمقراطية، من حيث هي تمثيل صحيح للرأي العام، والتزام كامل بمكاشفته في ظل الدور المتعاظم لامبراطوريات الاعلام الكبرى.

كما انها ستعطي الناخب الأميركي فرصة للخروج من أسر «ظلمة الوطنية المزيفة» المفروضة عليه اذا ما أحسن المرشحون الديمقراطيون تسيير دفة حملاتهم الانتخابية في المعارك الترشيحية التمهيدية التي ستنطلق بعد أسابيع معدودات. فقد شكك اليمين المحافظ طويلاً في شجاعتهم ووطنيتهم واخلاصهم لأميركا، وأمامهم الان مجال لكشف بعض الغايات الحقيقية للحرب، ومنها توزيع الأسلاب على المحاسيب والداعمين والشركات الكبرى ذات المصالح الواسعة المشبوهة.