دفاع عن الجنتلمان بلير والعم سام!

TT

منعني المستر نايت، المعلم الانجليزي في مدرستي الابتدائية قبل نصف قرن، من البكاء والدم يسيل من ركبتي المجروحة. الحكيم لا يبكي،

«فالدموع تحجب الرؤية يا ولدي العزيز» فلا ترى حجرا آخر في الطريق فتحمل الألم في شجاعة الرجال دون غضب.

لم يفقد «الجنتلمان» نايت بروده أو رباطة جأشه ابدا ـ حتى عندما سلبه عسكر البكباشي من ممتلكاته وطردوه شر طردة من وطنه الاختياري، الاسكندرية التي علم اجيالا من ابنائها، كيف يفكرون بذهن صاف ويشبون جنتلمانات باردي الأعصاب.

وقفت تبجيلا للمعلم نايت، رسول المعرفة لتلاميذ الاسكندرية، في متابعتي صراخ اليسار يعترض على زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لبريطانيا والتي بدأت بمصافحته الجنتلمان رقم واحد في العالم، الأمير تشارلز ولي عهد المملكة المتحدة.

لمحت برود اعصاب المستر نايت في رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وهو يواجه صراخ المحتجين والابتسامة لا تفارق شفتيه ويجادلهم حسب قاعدة «لكل مقام مقال».

ففي حديثه لاتحاد الصناعات البريطانية استخدم الأرقام كمبرر لمصلحة بريطانيا في التحالف مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الارهاب ـ الذي عانت منه الصناعات البريطانية وتعاني منه صناعات السياحة والطيران ـ. أكثر من مليون بريطاني، يعملون مباشرة في شركات امريكية، ويبلغ ارقام الوظائف غير المباشرة من الأعمال والاستثمارات الأمريكية ـ التي تزيد على 27% من جملة الاستثمارات ضعف الرقم. وقد بلغ عدد الطلاب الأمريكيين المسجلين في الجامعات البريطانية في العام الماضي 38 الف طالب.

عندما ادى ارهاب «القاعدة» في سبتمبر (أيلول) عام 2001 الى انهيار السياحة العالمية اطمأن الامريكيون لموقف «الجنتلمان»، فتدفقوا سياحا على بريطانيا ـ منفقين أكثر من مليار جنيه استرليني في عام واحد.

في يوم ذكرى الشهداء ـ وهو الحادي عشر من الشهر الحادي عشر في الساعة الحادية عشرة، ذكرى صمت مدافع الحرب العالمية الأولى ـ ذكر بلير مستمعيه بعرفان «الجنتلمان» البريطاني للجميل. فقد ارسلت امريكا بمئات الآلاف من ابنائها في الحربين العالميتين الأولى والثانية لتسيل دماءهم على شواطئ وارض اوروبا دفاعا عن الحرية.

تضحيات الامريكيين لدحر النازية والفاشية في اوروبا، هي التي تمكنك اليوم من قراءة صحيفتك الصادرة في عاصمة الحرية لندن، وهي التي مكنت الجدة المتمردة لينديز بيرسي من تسلق بوابة سور قصر باكنغهام الرئيسية بحرية ـ تحت نظر الملكة ـ لتعلق عبارات تنتقد جلالة الملكة وضيفها الكبير. ولم يأمر «الجنتلمان» حكمدار بوليس لندن رجاله بانزالها او اهانتها، حتى نزلت من تلقاء نفسها بعد ساعتين، وحرر لها محضر مخالفة وبعد دقائق كانت تتحدث بحرية امام كاميرا الـ«بي. بي.سي».

وفي كل مرة ضحى فيه العم سام بحياة ودماء أبنائه من اجل الحفاظ على مبادئ الحرية والديمقراطية، تحمل دافع الضرائب الامريكي النفقات سواء في مشروع مارشال الذي اعاد بناء اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، او الملايين التي تدفع في العراق ـ وآخرها 16 مليونا اضافية للعلماء الباحثين العراقيين من اجل مصلحة ورفاهية الأمة العراقية.

وجد «الجنتلمان» بلير في الرئيس بوش حليفا في وقت مناسب التقت فيه المصالح الاستراتيجية الامريكية مع تطلعات ورغبات الشعوب، عندما اعترفت واشنطن بأخطاء الماضي، ووعيت أن مبادئ الدستور الامريكي من حرية وديمقراطية هي مطلب شعوب منطقة الشرق الأوسط والأمم الاسلامية، وأن الديمقراطيات لا تشن الحروب وتسعى للسلام والتنمية، وبريطانيا وامريكا بلدان نمت عظمتاهما على التجارة والاقتصاد.

وليت المحتجين على زيارة الرئيس بوش حضروا دروسا لمعلمين مثل المستر نايت ليبحثوا عن الحقائق. فاحصائية الـ«غارديان» ـ التي تقود الحملة المعادية لأمريكا تشير الى هبوط نسبة المعارضين لسياسة بوش، بين اليسار، الى 41% وارتفعت نسبة المرحبين به الى 47% اما نسبة المرحبين به بين المحافظين فلا تزال 71%.

الأرقام تجاهلتها الفضائيات العربية التي يديرها تحالف القومجية العربجية (بفتح الراء) ومخلفات الشيوعجية والراديكاليين الاظلاميين، بل صرخ قومجي بصيحة احمد سعيدجية في احداها بخروج لندن «عن بكرة ابيها» احتجاجا على زيارة بوش!

واقتصر احتجاج «الجنتلمانات» المعارضين للسياسة الامريكية على خطابات مهذبة خفيفة الظل في الـ«ديلي تلغراف» تذكر المرافقين الامريكيين المسلحين ان بوليس اسكوتلنديارد ـ غير المسلح ـ في 175 عاما لم «يفقد ابدا» حياة رئيس، في حين فقدت الوكالات الامريكية المسلحة ثلاثة رؤساء برصاص الاغتيالات في الفترة نفسها، أو آخر يحتج على دخول كلاب الحراسة الامريكية البلاد دون المرور بالحجر الصحي.

واذا كان بلير يذكرني بمعلمي المستر نايت، فإن المحتجين يذكرونني بالعسكر الذين نهبوا ممتلكاتها.

استاذي نايت درس لنا البروتوكولات الملكية لبريطانيا. انها المرة الاولى التي يدعي فيها رئيس امريكي لزيارة «دولة» موجهة من الملكة، وليس الحكومة عن طريق اللجنة الملكية لشؤون زيارات الدولة التي تلتقي مرتين في العام. بروتوكول زيارة الدولة مختلف عن الزيارات الرسمية ـ والتي ينزل فيها الوافد على الحكومة وليس الدولة، او زيارة العمل والتي يستقبل فيها الضيف نظيره ـ أي رئيس الوزراء للرئيس او الوزير للوزير.

الدعوة، حسب ما سجلته الأوراق الرسمية وجهتها الملكة للرئيس بوش في يونيو عام 2002 بتوصية رفعها رئيس الوزراء للجنة الزيارات في ديسمبر عام 2001.

المحتجون اما يتجاهلون او جاهلون بالأوراق الرسمية: اليسار، يريد احراج «الجنتلمان» توني بلير لأسباب تتعلق بالمنافسة داخل حزب العمال، والفوضويون وجدوا مناسبة «يشبعون فيها لطما»، ومناهضو العولمة يظنونها اختراعا امريكيا، والاظلاميون يرون الاحتجاج «جهادا» والتحالف ضد الحرب في العراق والحرب في افغانستان، يضم اسلاميين صدقوا خرافة الحملة الصليبية الجديدة. واشك في ان يكون بين المتظاهرين عدد محسوس من العراقيين ـ واغلب العراقيين هنا جاءوا فرارا من بطش صدام ـ خاصة ان هذا التحالف الغريب، لم يكلف نفسه عناء التظاهر ضد صدام عندما استخدم السلاح الكيماوي ضد جيرانه وضد الأكراد.

ولعلها من مصادفات التاريخ الايجابية ان يكون الرئيس بوش اول رئيس امريكي ينام تحت سقف قصر باكنغهام منذ 85 عاما عندما نزل الرئيس ويدرو ويلسون ضيفا على قصر باكنغهام، في زيارة رسمية فقط.

أذكر درسا لأستاذ نايت عن مهمة الرئيس ويلسون التاريخية في دعم الديمقراطية وحرية الانسان والاستقلال للشعوب ضد الطغيان حول العالم، في نهاية الحرب العالمية الاولى. المتابع لاعلانات الرئيس بوش، منذ وست بوينت عام 2002 او قبل اسبوع يعي ايمانه برسالة ويلسونية جديدة يشاركه فيها رئيس الوزراء بلير.

رحم الله استاذنا نايت ـ واسمه بالانجليزيةKNIGHT أو الفارس، فقد كان فارسا قاد جيشا من التلاميذ للمعرفة والتفكير الحر.