«الديلي تلغراف» ...الى أين ؟

TT

اذا كان لنا ان نصدّق ان الصحافة ما تزال «السلطة الرابعة»، فلا شك ان صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية (مع شقيقتها الأسبوعية «الصنداي تلغراف») تعد من أبرز عناصر هذه السلطة وأخطرها.

فهي أولاً الصحيفة الأوسع توزيعاً بين الصحف الجادة الكبيرة القطع، وثانياً الصوت التقليدي في ولائه لحزب المحافظين الى ان حوّله امتلاك الملياردير الكندي الأصل اللورد (كونراد) بلاك الى صوت يوزّع الولاء بالعدل والقسطاس بين المحافظين وحزب الليكود الاسرائيلي.

ومما يجدر ذكره ان نوعاً من التحوّل «المورفولوجي» حصل مع الصحافة البريطانية خلال العقود الخمسة الفائتة، اذ فرض منطق السوق تحلل قبضات أساطينها من المؤسسين وورثتهم من أمثال اللورد بيفربروك واللورد نورثكليف واللورد كامروز وتولى أمورها جيل جديد من أخطبوطات رجال الأعمال ممن هم على شاكلة روبرت مردوخ و(الراحل) روبرت ماكسويل وكونراد بلاك وريتشارد ديزموند.

كذلك فرض تغير حال بريطانيا من دولة صانعة للتاريخ الى رديف بالكاد يشارك في صنعه دخول ولاءات اضافية لبعض الصحف. وهكذا واكبت «التايمز» في عهدة مردوخ «المرحلة الريغانية» في أميركا فصارت فعلياً صوت اليمين الأميركي المتشدد في ساحة الاعلام البريطانية وما تزال، وتحولت كل مطبوعات مردوخ (الأسترالي ـ الأميركي الجنسية) البريطانية الى العدو الألد لأي تقارب بريطاني مع أوروبا.

كذلك صارت «الديلي تلغراف» التي طالما اعتبرت الصوت الرسمي لحزب المحافظين الى مطبوعة «شقيقة» من ناحيتي الملكية والولاء السياسي لـ«الجيروزاليم بوست» الليكودية الاسرائيلية، بعدما صارت جزءاً من مجموعة هولينغر الدولية برئاسة بلاك المتزوج من الكاتبة باربارا أمييل، أكثر كتاب بريطانيا تحمساً لحزب الليكود وأوثقهم صلات ببنيامين نتنياهو وآرييل شارون. وقبل أن ننسى يبرز بين كبار مسؤولي مجموعة هولينغر هذه ...ريتشارد بيرل أحد اكبر مخططي البنتاغون السابقين والحاليين وأصدقاء الليكود في واشنطن.

«الديلي تلغراف» والمجموعة التي تملكها الآن في أزمة بعدما اضطر بلاك للاستقالة من رئاسة المجموعة اثر فتح تحقيق معه بتهمة قبض مبلغ ضخم من المال مع ثلاثة من معاونيه بصورة غير مشروعة. والبحث جار عن مشتر للصحيفة الوقورة سابقاً.

قيادات حزب المحافظين حريصة على بقاء «التلغراف» صوتاً مسموعاً لليمين، ويهمها جداً بالتالي الا تقع في أيدي جهات «غير موثوقة». وكان ريتشارد ديزموند ناشر صحيفة «الديلي اكسبرس»، الذي صنع ثروته من المطبوعات الاباحية قبل ان تسهّل له علاقاته الطيبة بالقيادة الحالية لحزب العمال شراء «الاكسبرس»، قد تعهد خلال الأسبوع الفائت لمايكل هوارد الزعيم الجديد لحزب المحافظين بأنه سيحافظ على «يمينية» «التلغراف» اذا سمح له بشرائها.

لا شك في ان ديزموند صادق في تعهده، وذلك بالنظر الى ابقائه «الاكسبرس» في خانة صحف اليمين منذ اشتراها قبل فترة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو نحو أي يمين ستتجه «التلغراف»؟

هل ستظل ليكودية الهوى والهوية كما كانت تحت انظار المسز آمييل وزوجها وصديقهما المستر بيرل؟ أم ستعود الى «بريطانيتها» ووقارها الأمبراطوري القديم؟

أنا أذكر عن والدي الذي عاش في بريطانيا بين عامي 1955 و1956 انه كان مدمناً على قراءة «التلغراف» لأنها حسب رأيه كانت الأوسع تغطية لأخبار الشرق الأوسط. وكانت تلك الحقبة، كما هو معروف، حافلة بالأحداث في منطقتنا.

ثم مرّت السنون، واستقرت في بريطانيا في اواخر عقد السبعينات وعندها تعرفت الى «التلغراف» ثم الى صحافيّها وكاتبها الكبير جون بولوك أحد ألمع خبراء العالم العربي وشؤون الشرق الأوسط. وصرت أتابعها رغم بعدي عن خطها السياسي لأنها حافظت على مقدار مقبول من الموضوعية والمستوى المهني المحترم. لكن تقاعد بولوك، ثم ضم الصحيفة الى أمبراطورية بلاك ـ مما أعاد صفها في مواقع أقصى اليمين «غير الوطني» جنباً الى جنب «التايمز»ـ أنهيا آخر صلة لي بها غير مأسوف عليها.

ان آخر ما تحتاجه الحريات العامة ـ وبالخصوص الحريات السياسية ـ سقوط الصحافة الجادة في شرك أصحاب المشاريع السياسية الكبرى ...اللا اعلامية. ويكفينا ويكفي العالم التسطيح العام الحاصل عبر «تكثيف» الاعلام المرئي السريع السيئ النوعية على الاعلام المقروء بشقه الراقي الجاد.

كذلك ستكون الخسارة مفجعة لمناصري الاعلام المقروء عندما تصبح صحافة التحامل والتبعية «سيدة الساحة»... تمارس فيها التحريض والدس والتضليل على هواها، بلا حسيب او رقيب.