امرأة تغزو عقر دار المشايخ..!

TT

التغيير قانون حتمي عام يشمل الكائنات الحية والجمادات، ولكن ان تبادر الى التغيير بنفسك وعلى يدك خير من ان يفرض عليك. وفي كل الاحوال لن يتحقق التغيير الى الافضل، بمعزل عن الآخر المتقدم والمتفوق ومعاونته لك، والمجتمع الحيوي الناضج هو الذي يقيم علاقات صحية مع المجتمعات المتقدمة من غير عقد ولا حساسية مرضية ويستفيد من تجاربها وانجازاتها المتقدمة. واذا كان التغيير في الماضي ضرورة حيوية للمجتمعات، فإنه الآن في عصر العولمة وتقارب الشعوب وتمازج الثقافات وتداخل المصالح الاقتصادية، ألزم واوجب.. ومن يعارض التغيير ويجمد على اوضاعه بحجة الخوف على الهوية والخصوصية يحكم على نفسه بالعزلة ثم الذبول ثم الموت.

لقد شهدت الساحة القطرية عمليات تغيير وتحديث واسعة النطاق شملت كل مناحي المجتمع، وبخطوات واثقة مدروسة ومتدرجة ومحكومة بضوابط تجنبها الانزلاقات الخطرة وسياسة حرق المراحل والقفز فوق تضاريس الواقع الاجتماعي، وقد شملت عمليات التحديث المفاصل الرئيسية للبنية المجتمعية سياسة واقتصادا وتعليما وادارة وتنظيما اجتماعيا. ويهمنا في هذه المقالة الحديث عن الانفتاح الاجتماعي الذي هدف الى زيادة الاهتمام بالعنصر النسائي المواطن، المتعلم والمدرب في فن العمل العام، ثم زيادة مشاركة المرأة القطرية في الحياة العامة عبر التصويت والترشيح للمناصب التمثيلية وصولا الى مشاركتها في صنع القرار بتمكينها من المناصب القيادية، ولعل ابرز حدثين اجتماعيين في هذا السياق هما:

1 ـ اسناد حقيبة التربية والتعليم الى كفاءة نسائية متميزة هي السيدة شيخة المحمود كأول تفعيل للدستور القطري ـ حتى قبل صدوره ـ في المجال الاجتماعي السياسي، وهو سبق خليجي متميز.

2 ـ الحدث المهم الذي تشهده الساحة القطرية هذه الايام في اختيار كفاءة نسائية اكاديمية متميزة هي د. عائشة المناعي عميدة لكلية الشريعة وهو حدث غير مسبوق خليجيا وعربيا واسلاميا.

تُرى كيف نقرأ الحدث وما دلالاته؟

اولا: لا بد من الاشارة الى ان الدستور القطري تميز بنص متقدم جدا حين لم يكتف بمبدأ المساواة في حقوق المواطنة (المادة 34)، بل عمد الى تفعيله بالنص على (مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين) المادة (19)، وكان ايراد هذا النص ضروريا لتصحيح اوجه الخلل الاجتماعي في ظل ثقافة التمييز بين الجنسين والمحكومة بموروثات اجتماعية غـــــير منصفة للمرأة، بمـــــعنى ان الدولة عليها ان تتدخل لانصاف المرأة باعتبارها الجنس المتضرر اجتماعيا عبر توفير الفـــــرص المتــــــكافئة والمنــــاخ الملائم الذي يضمن للمرأة الاندماج العادل في السياق المجتمعي.

ثانيا: ان تغزو امرأة عقر دار المشايخ، وتكون عميدة عليهم، حدث غير مسبوق عبر قرون، وبخاصة اذا استمعنا الى الكلام الطويل الممل عن ان المرأة ليست من اهل الولاية العامة بناء على نظرات سقيمة ترى المرأة مخلوقة ناقصة دون الذكر وهي عورة يجب حبسها وسترها عن الحياة العامة، ولعل الامام الغزالي رحمه الله هو خير من بلور النظرة الفقهية في عصره تجاه المرأة في كتابه «الإحياء» حينما قال «فالقول الجامع في المرأة ان تكون قاعدة في قعر بيتها، لا ترى الرجال ولا يراها الرجال. فاذا اضطرت للخروج خرجت في هيئة رثة، وكيد النساء عظيم وسوء الخلق وقلة العقل من صفاتهن، والمرأة الصالحة فيهن كمثل الغراب الاعصم بين مائة غراب، وللمرأة عشر عورات فاذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فاذا ماتت ستر القبر العورات الباقية».

ترى ماذا يقول هؤلاء المحكومون بهذه النظرة ـ حتى الآن ـ بعد ان اصبحت عندنا وزيرة ومديرة وعميدة، هل المرأة لا تصلح للقيادة؟ الا يتفقون معنا في ان الاجتهادات الفقهية (مع كامل احترامنا واعتزازنا بأصحابها) محكومة في النهاية بالاطار المجتمعي الذي عايشه الفقهاء رحمهم الله؟

وألا يتفقون معنا في ان الاموات لا يحكمون الاحياء خارج الثوابت القرآنية والنبوية؟

ألا يتفقون معنا في ان المرأة من اهل الولاية العامة بنص القرآن الكريم (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وحين مدح القرآن حكم الملكة بلقيس القائم على الشورى.

ألا ينبغي مراجعة الموروثات الفقهية في ظل الواقع المعاصر الذي اثبت نجاحات للمرأة في حقل القيادة والتوجيه لا تقل عن نجاحات الرجل عالميا واسلاميا وعربيا وخليجيا ومحليا وعلى كل المستويات القيادية؟

ألا يتفقون معنا في ان الحديث (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) يقصد به تحديدا (الامامة العظمى) او خليفة المسلمين؟ واين هي تلك الامامة العظمى؟

من يريد ان يقنع بموروثاته ونظرته الضيقة فليفعل، يكفينا ان شريعتنا اول واكبر ناصر ومنصف للمرأة، ولئن تُنصف المرأة على ايدينا خير من ان يُفرض علينا الانصاف.

* عميد كلية الشريعة السابق بقطر