النهب الوطني

TT

وردت لهذه الصحيفة رسالة من قارئ عراقي يصف فيها كيف ان المواطن اصبح معتادا على الذهاب الى اماكن بيع المواد المستعملة ليفتش عما سرق منه ثم يساوم السارق على شراء ما فقده. في بريطانيا يسمون اسواق المواد المستعملة بسوق البراغيث. اعتقد ان من المناسب تسمية مثل هذه السوق في بغداد بسوق الواوية (الثعالب) بالنظر لشهرة الواي في سرقة الدجاج. الحقيقة انني كثيرا ما سمعت الناس يسمون الموظف الحرامي والمرتشي والمحتال بأنه «واوي عتيق».

وفي هذه المناسبة كتب لي احد القراء الافاضل من مدينة العمادية في كردستان العراق، فقال: ان هذه المدينة كثيرا ما تعرضت للنهب وهو ما يسمونه في العراق بالفرهود. ويظهر ان الحرامية الاكراد كانوا على درجة من الكسل أو الثقة بالنفس بحيث لا يكلفون انفسهم بحمل البضاعة المنهوبة الى مدينة أخرى أو يخفونها لمدة من الزمن، ما ان يدخلوا بيتك ويسرقوا منه شيئا حتى يحملوه الى الرصيف المقابل ويعرضوه للبيع، وعندئذ يتعين عليك ان تذهب وتشتريه من السارق وتساومه على الثمن، وهذه مساومة طريفة ان تبذل جهدك لإقناع رجل غريب بأن عفش بيتك عفش تافه ورخيص ووسخ ومليء بالعيوب ولا يليق بأي انسان ان يضعه في داره.

يروي القارئ الفاضل، الذي اوصاني ألا اذكر اسمه خوفا بالطبع ان يسمع به الحرامية فيأتون وينهبون بيته، يروي فيقول: ان عمه عقد العزم على الزواج واشترى سريرا مفتخرا يليق بالعروس، والمعتاد في بلادنا ان يكون ثمن السرير اكبر من مقدار مهر الزوجة، على اعتبار ان الرجل الكردي يستطيع ان ينام بدون زوجة ولكنه لا يستطيع ان ينام بدون فراش، وبعد ان جاء النجار بهذا السرير المفتخر لبيت الزوجية، حصل فرهود في المدينة وسرقوا السرير من غرفة العرس وتركوا العروس جالسة على الارض. وعندئذ لم يتمالك العريس غير ان يخرج لسوق الواوية ويفتش عن السرير ليشتريه من السارق. يروي صاحب الرسالة فيقول انه عثر عليه بالفعل وسأل السارق عن ثمنه قائلا: «عمي بيش تبيع لي جربايتي (سريري)؟». وسار قوله مثلا يروى في اللغة الكردية عمن يحاول ان يستعيد ما هو ملكه. وهذا مثل سيكثر استعماله عندما سيحاول الاكراد استعادة اراضيهم وبيوتهم التي اخذها صدام حسين منهم واعطاها للعرب، حاجي عرب بيش تبيع لي جربايتي؟

الشرطة العراقية مشغولة الآن في منع الجرائم، لكنها في الايام الاولى من معركة التحرير لم يكن لها اي حول أو صول في هذا المضمار. فعندما سرق اللصوص سيارة احد اصدقائي وذهب الى مركز الشرطة ليرفع ظلامته. قال له الضابط: كل ما نستطيع ان نفعله هو ان نعطيك اسم من سرقها منك وعليك ان تذهب اليه وتشتريها منه قبل ان يبيعها لناس آخرين.

ذهب احد علماء الاقتصاد الى الرأي بأن الرشوة في الحقيقة هي مُجدَّد تنظيم اقتصادي في اطر تقليدية. انها نوع من الضريبة يستحصلها الموظف المراجع. وبوحي ذلك يمكنني ان اقول ان الفرهود هو ايضا باب من ابواب الاقتصاد الوطني.

اذا سلمنا بأن تداول الثروة من مقومات الاقتصاد الناجح، فإن الفرهود احسن وسيلة للتداول. فالجرباية التي تنام عليها في بيتك هي في الواقع ثروة ضائعة مجمدة. ولكن حالما يأتي حرامي وينهبها منك ويطرحها للبيع في سوق الواوية، تصبح جزءا من السيولة النقدية تساهم في النشاط الاقتصادي للبلاد. فضلا عن ذلك فإنها وسيلة مباشرة لاعادة توزيع الثروة بين من ينام على الرصيف ومن ينام على جرباية، وكذلك رفع المستوى الثقافي حيث يكتشف المشردون والمعدمون وجود الجرباية والكرسي والثلاجة ويتعلمون هذه الكلمات وكيف يستعملونها جملة مفيدة.