روسيا في العالم الإسلامي.. أزمة الهوية والدور

TT

فوجئت من خلال لقاءات مطولة بعدد من المفكرين والمستعربين الروس على هامش الحوار العربي الروسي الذي عقدته قبل أشهر منظمة الألكسو في مدينة الحمامات التونسية من التغير الجذري الذي عرفته الرؤية الاستراتيجية الروسية خلال العقد الأخير الذي مضى على انهيار الاتحاد السوفياتي وانحسار آيديولوجية الشيوعية. وقد بدا لي من الواضح أن تركة عقود ستة من العلاقات الوثيقة بين روسيا والعالم العربي لم تترك أثرا مكينا، ولم تعد المنطقة العربية الإسلامية تشكل بؤرة اهتمام محوري لهذا البلد الكبير الذي لم يخرج بعد من أوحال الحقبة الانتقالية، ولم يستطع أن يحسم إشكال هويته الإقليمية، ولا يزال في طور استكشاف موقعه داخل الخارطة الجيوسياسية العالمية الجديدة. أحد كبار المستعربين المقربين من دوائر القرار والسلطة في موسكو أكد لي بوضوح أن على العرب أن يفهموا جيدا أن روسيا قد تغيرت جذريا، ولم تعد مستعدة أن تسلح العرب ضد إسرائيل ولا أن تتبنى قضاياهم القومية الأساسية ميكانيكيا، كما عليهم أن لا يراهنوا على عودة القطب الروسي منافسا للولايات المتحدة، فلم تعد لبلاده القدرة ولا الرغبة في الرجوع إلى مناخ الحرب الباردة. بل إن محدثي ذهب في مصارحته لي إلى القول ان روسيا ربما تجد مصالحها مع إسرائيل أقوى وأكثر مردودية من مصالحها مع البلدان العربية، مذكرا بالدور المتنامي الذي يؤديه اليهود الروس في تركيبة المجتمع الإسرائيلي وفي دواليب السلطة والاقتصاد. وعلى الرغم من هذه الصورة، فإن العديد من المؤشرات قد تضافرت في الآونة الأخيرة تكشف عن رغبة روسية أكيدة في العودة إلى الساحة الشرق أوسطية التي أقصيت منها بعد نهاية الحرب الباردة.

ففي الأسبوع المنصرم تقدمت الديبلوماسية الروسية بمبادرتين هامتين بخصوص الأزمتين الإقليميتين الرئيسيتين (فلسطين والعراق)، تتعلق أولاهما بقرار مجلس الأمن باعتماد خطة الطريق إطارا لتسوية الموضوع الفلسطيني، وتتمثل المبادرة الثانية في اقتراح عقد مؤتمر دولي حول العراق تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة، بحضور ممثلين عن القوى العراقية المختلفة والبلدان المجاورة. وكانت روسيا قد تقدمت في شهر أكتوبر الماضي بمبادرة أخرى جريئة تتمثل في طلب عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي، وشاركت من خلال رئيسها بوتين في أعمال قمة ماليزيا الأخيرة، وحظي طلب قبولها عضوا مراقبا في النادي الإسلامي بالقبول الواسع. فهل تعكس تلك المبادرات المتلاحقة تطورا نوعيا في الاستراتيجية الروسية إزاء المنطقة العربية الإسلامية؟ وهل تعبر في ما وراء هذا التوجه الإقليمي عن تغير جوهري في الرؤية الديبلوماسية الروسية؟. قبل محاولة الإجابة على هذين السؤالين، يتعين التذكير بأن طبيعة موقع روسيا الجغرافي في نقطة التماس والتداخل بين أوروبا وآسيا ونمط تركيبتها العرقية والدينية قد حددا طيلة العصور الحديثة إطار هويتها الإشكالية الممزقة بين انتمائها الأوروبي واتجاهها الدائم للتوسع شرقا. ودون الدخول في المعطيات التاريخية المعروفة حول قيام الإمبراطورية القيصرية وكيف خلفتها الإمبراطورية الشيوعية المندثرة، نكتفي بالقول أن الرؤية الاستراتيجية الروسية، اتسمت دوما بالطموح الامبراطوري وعجزت في فترات الأزمة الانتقالية عن بناء عقيدة استراتيجية وطنية محدودة. تلك هي الحقيقة التي سجلها المختصون في الشأن الروسي، وقد بدت ساطعة خلال العقد الأخير الذي شهد أحداثا كبرى متلاحقة في الساحة الروسية منذ تنحية آخر رئيس سوفياتي (غورباتشوف) مرورا بالانقلاب العسكري الفاشل وتفكك الدولة في عهد يلتسين، انتهاء بوصول الرئيس الحالي بوتين إلى سدة الحكم في ظروف متأزمة حادة. ومن المعروف أن النتيجة الأساسية لهذا التحول هي دفن الصراع الروسي الأمريكي الذي شكل طيلة نصف قرن وقود الحرب الباردة، حتى ولو لم تصل العلاقات بين موسكو وواشنطن حدّ الشراكة الوثيقة التي تبناها الرئيسان السابقان كلينتون ويلتسين. فالعلاقة الأمريكية الروسية ظلت في السنوات الأخيرة محكومة بتوازن هش قائم على عقد ضمني قوامه دعم الولايات المتحدة لاندماج روسيا في النظام الدولي الجديد وتشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي شهدتها، مع الحيلولة دون قيامها بأي دور جوهري في منطقة نفوذها التقليدية مع ضمان إبعادها عن المجال الأوروبي من خلال احتواء دول أوروبا الوسطى والشرقية في الحلف الأطلسي الموسع وعرقلة جهود الشراكة بين موسكو ودول الاتحاد الأوروبي. ويمكن النظر إلى كل الحروب الأمريكية في السنوات الخمس الأخيرة بكونها كانت في أحد جوانبها وأهدافها احتواء لآخر آثار التركة السوفياتية واستهدافا لإمكانات تجدد دور روسيا في فضائها الحيوي، سواء تعلق الأمر بحرب كوسوفو أو الحربين الأخيرتين في أفغانستان والعراق. وقد ضمنت الحروب الأخيرة للولايات المتحدة الاستفراد بالحزام النفطي الهام الممتد من المنطقة القوقازية إلى الخليج (يقدر احتياطه بأربعمائة مليار برميل)، في الوقت الذي تمكنت من تجذير حضورها حتى في البلدان المنتمية لكومنولث الدول المستقلة، وهي البلدان التي كانت تنضوي سابقا في الاتحاد السوفياتي (مثل أوكرانيا وروسيا البيضاء وأذربيدجان..). ولئن كانت روسيا استعادت نسبيا عافيتها الاقتصادية بعد سنوات التحول العسيرة، وغدت لها قيادتها الشابة المنحدرة من المؤسسة العسكرية الأمنية العتيدة، فإنها تجد نفسها عاجزة عن حسم خياراتها الاستراتيجية، وتبدو متذبذبة بين مقاربتين متمايزتين:

1ـ استعادة دورها الامبراطوري التقليدي، بإحياء القومية الروسية وفرض نفوذها على امتداداتها ومناطق نفوذها التاريخية، بدءا بالبلدان المنفصلة عنها والتي ترتبط بها عضويا من حيث المصالح الاقتصادية والأمنية، وتضم أقليات روسية نشطة. ويبدو أن الرئيس بوتين يميل بوضوح إلى هذا الخيار الذي تحول دونه عوائق داخلية ودولية بديهية.

2ـ توطيد الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة مما يمكن روسيا من الاندماج الفاعل في النظام الدولي ومن تجديد بنيتها الصناعية والاقتصادية عن طريق المساعدة الأمريكية. ومع بروز مؤشرات واضحة على تبلور هذه الشراكة خصوصا في حرب الإرهاب التي أعلنها الرئيس بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، إلا أنه من الواضح أن استراتيجية المحافظين الجدد الحاكمين في واشنطن تقوم على عزل موسكو عن أي دور إقليمي ودولي فاعل. وقد لخص هذه الاستراتيجية وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر في مبدأين:

توسيع حلف الناتو والحفاظ عليه حاجزا يمنع عودة روسيا الامبراطورية، والحيلولة دون اندماج روسيا في أوروبا الموحدة الذي سيشجع انفصالها عن الولايات المتحدة. وفي مواجهة المصاعب التي تطرحها المقاربتان المذكورتان، لا يبقى لروسيا سوى خيار الاستفادة من أخطاء وثغرات استراتيجية الهيمنة الأمريكية بافتكاك مواقع نفوذ وأدوار حيوية في مناطق لصيقة بمصالحها وأمنها القومي. ومن هنا نقرأ عودتها المسرحية إلى الساحة العربية الإسلامية في الفترة الأخيرة، بعد أن غاصت أقدام الولايات المتحدة في المستنقع العراقي، وفشلت إدارة بوش في تحريك الملف الفلسطيني.