سيكولوجية الاستعمار.. والقابلية تجاهها..!

TT

جاء في كتاب (العبودية المختارة) الذي كتبه (إتيين دي لا بواسيه) عام 1562، أن أثينا أرسلت اثنين من رسلها إلى فارس، فلما دخلوا الحدود استقبلهم الوالي هناك فأطعمهم وأكرمهم، ثم قال لهم لماذا لا تتحولون إلى عبيد سيدي الشاهنشاه. نظر الرجلان بتعجب لعرض الفارسي الذي قدمه بكل حرص وسخاء. وقالا له: إنك لم تذق طعم الحرية بعد. ولو ذقتها لقاتلت عنها بأظافرك وأسنانك. وكل شرح لشيء لم تذقه لا يقربك من المسألة إلا بعدا عنها.

وعندما كان (جوزيف ويلسون) القائم بأعمال السفارة الأمريكية في بغداد، أثناء عملية درع الصحراء في طريقه للسلام على طاغية دجلة قبل مغادرة بغداد، تقصد الثاني أن يمد يده على طريقة الجبارين فينحني ويلسون لكي تظهر الصحافة الإنسان الأمريكي منحنياً والطاغية منتصباً، بما يعكس العلاقة النفسية بين الطرفين، كما كان الحال مع العبيد من أهل العراق، ولكن الأخير حرمه من هذه المتعة. وعندما تخصصتُ في الطب في ألمانيا، تعلمت ما هو أهم من الطب، أن نقف منتصبين بكرامة ونحن نتحدث لأي شخص في السلم الاجتماعي عاملاً كان أم رئيس دولة.

وهذه اللقطة تدخلنا إلى فهم سيكولوجية الاستعمار و(القابلية) للاستعمار. وعندما يستعمر طاغية بغداد أهل بغداد فلأن (الاستعداد) موجود عند أهل بغداد. وهو ليس مرض أهل بغداد لوحدهم وإنما عينة للدراسة الميدانية. والاستبداد السياسي يحكي امتداد الاستبداد الديني. والحاكم السياسي اليوم تلفع بعباءة شيخ الطريقة الصوفية يلعب بالمسبحة والأمة معاً. والطغاة في العالم العربي كثيرون. وهم بعوض من مستنقع واحد. وفي صدر كل واحد منا فرعون يتربص فرصته كي يتحول إلى فرعون، ما لم يحقن بمصل التخلص من قابلية الاستعمار. وهذا المرض ثقافي وليس سياسياً. والسياسي هو ابن المثقف رضع وفطم على يديه. وهذا المرض أنتج إنساناً سماه (مالك بن نبي) (إنسان ما بعد الموحدين) ويقصد بها فترة الانحطاط التي بدأت منذ مطلع القرن الخامس عشر للميلاد بعد حكم الموحدين في المغرب. وقديماً اجتاح المغول بغداد عام 1258، لأن (الاستعداد) للاجتياح مهد السبيل لاستقبال ضواري قراقورم. وخرج خليفة سمين حاسر الرأس لاستقبال الجزار هولاكو.

إذا اجتمع رجلان على تلة فأشار أحدهما بعصاه إلى القمر فلا يعني هذا أن عصاه أصبحت قمراً منيراً. وإذا اجتمع أهل قرية على مريض فإنهم يدركون أنه مريض ولكن هذا لا يعني أنهم شخصوا المرض فضلاً عن علاجه. وإذا كان شعب ما لا يرزح تحت العسكر الأجنبي فهذا لا يعني أنه مستقل. وعندما ألقى سحرة موسى عصيهم فتحولت إلى ثعابين، فلا يعني هذا أنها أصبحت ثعابين، بل خيل إليه من سحرهم أنها تسعى. واختلاط العصا بالقمر والمرض بتشخيص المرض والاستقلال بالاحتلال والعود بالثعبان، يعكس تماماً مشكلة (الاستعمار) و(القابلية) للاستعمار. و(الاحتلال) هو غير (الاستعمار). فأمريكا (احتلت) اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن بريطانيا (استعمرت) الهند كما (استعمرت) فرنسا سورية. وهنا يجب النظر إلى المسألة في ضوء علم النفس والاجتماع. وعندما انطلق (غاندي) في مسيرته لتحرير الهند أدرك طبيعة المرض وجراثيمه، ولذا لم يشأ أن يغير الاستعمار (البريطاني) بآخر (هندي) كما فعلت المعارضة العراقية فاستبدلت الاستعمار (البعثي) باحتلال (أمريكي).

والشعب الفلسطيني يعاني من نفس المشكلة اليوم، فهو يريد التخلص من طاغوت صهيوني ليسقط في قبضة طاغوت عربي. ومن يريد أن يتخلص بقوة السلاح يقع رهينة السلاح. وأفغانستان استخدمت السلاح فنقلت ملكيتها من يد الروس إلى يد المجاهدين (الأمريكيين) ثم إلى يد دولة تافهة تابعة للبنتاغون. وكل قوة تزيل قوة فتجلس محلها لا تزيد الأمور إلا سوءاً. وكل (لاشرعية) تزيل (لاشرعية) لا تولد معها أية (شرعية). سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.

وهناك من يريد احتكار اسم الله في حزبه والله غير حزبي ولا يعترف بالأحزاب والمتحزبين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون. ولو خسف الله الأرض بإسرائيل ما انحلت مشكلة العرب، بل استمروا في نزاعاتهم كما تفسخت دول الطوائف قبل قرون. فهذا قانون وجودي وصيرورة تمسك بجنبات الكون والتاريخ.

ويجب استيعاب حقيقة أنه لا يمكن لشعب واعٍ أن يعتلي ظهره طاغوت. وأن الوعي تألق مقدس. وهو في خلاصته نفسي بالتحرر من علاقات القوة.

وحتى نشرح مرض (القابلية) للاستعمار علينا شرح (متلازمة Syndrom) هذا المرض وفق ثلاثية كما في علم الأمراض:

فشعب ما (أولاً) قد يستعمر من الخارج وقد لا يستعمر حتى تتهيأ ظروف انطوائه تحت جناح الاستعمار. فمصر وقعت في قبضة بريطانيا ولكن اليمن بقيت بمنأى عن ذلك المصير، ولم يكن يعني أن اليمن كانت مستقلة. وكل بلد يحمل هذه العلة يخضع للقوة ويمكن مصادرته بيد الطواغيت الصغار المحليين، كما يمكن احتلاله من الطواغيت الكبار الاستعماريين. كما انتقلت العراق من يد صدام إلى يد بوش. ولا تزيد الشعوب عن بضائع قابلة للنقل والتصدير من مرفأ إلى مرفأ.

وهو (ثانياً) مرض عام يتخلل كل المستويات والطبقات الاجتماعية والجنس والعمر. يظهر ذلك بين الموظف والمراجع، والمرأة والرجل، والطفل والأستاذ. ومنظر الشرطي وهو يصفر لقائد السيارة وكيفية اقترابه منه في مشية الغوريلا مباعداً بين رجليه رافعاً بطنه للأمام ورقبته للخلف وقائد السيارة المضطرب الممتقع الذي يتزلف بالكلمات والرشوة والحلف بأغلظ الأيمان يفتح عيوننا على الواقع الاستعماري اليومي.

وهو (ثالثاً) تشظ وتراكب في نفسية الفرد مثل الدكتور جايكل وهايد. أو مرضى الشيزوفرينيا. أو الأمراض الجنسية فهو سادي ـ مازوخي بنفس الوقت.

ويعتبر (علي الوردي) أن المجتمع العراقي مصاب بثلاثة أمراض: (ازدواجية الشخصية)، وصراع (الحضارة ـ البداوة)، وثالثاً (التناشز الاجتماعي). فهو مجتمع أنبت الحضارة وابتلي بروح البداوة. وهو يريد أن يجمع بين (الوساطة) وروح (المساواة). وهو يطالب بأقصى حقوقه ولا يقوم بأبسط واجباته.

إن الذهنية الاستعمارية حالة (مركب) يضم (الاستعمار) و(القابلية للاستعمار) كما في الأمراض النفسية. فالمستكبِر هو مستضَعف في أعماقه. ويمكن أن ينقلب المستضَعف إلى مستكبِر حال وضع يده على القوة. وأكبر طاغوت هو في أعماقه أحقر صعلوك. ونحن نعرف أن الفيلم (المحمض) الملون هو نسخة عن (الأسود) غير الواضح. وحقيقة الفيلم واحدة. والنسخة الأصلية لا تختلف كثيرا عن (المطورة Developed). وبتعبير القرآن، فإن ملة المستكبِرين والمستضعَفين واحدة. فمن ملك القوة تحول إلى إله، ومن سحبت منه تحول إلى عبد. فهذه العلاقة من (الألوهية ـ العبودية) مادتها القوة، وهي بالتالي إعلان لنهاية الإنسان.

والأنبياء جاؤوا لهذه المسألة لتحرير الوعي وإرجاع الإنسان من الموت إلى الحياة. «أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها».

واليوم فإن بوش وابن لادن يمثلان وجهي هذه العملة المزيفة. وحتى يظهر موسى فيجب أن يمارس السحرة دورهم فيسحروا أعين الناس ويسترهبوهم.

يروى عن حسني الزعيم، أحد مغامري الانقلابات في الخمسينات في سورية، أن وفدا من أعيان دمشق أراد زيارته لمراجعته في بعض الأمور، فدخلوا عليه وهو يصيح في التلفون: إذا لم يمتثل للأمر فقوموا بإعدامه فورا. ثم التفت إليهم وقد ابيضت وجوههم فزعاً. وقال: أهلا بكم جميعا، ماذا أستطيع أن أفعل لكم. قالوا: عفوا نحن جئنا فقط لنبارك لك العهد الميمون ونتشرف بلقاء شخصكم العظيم. قال لهم: شكرا لكم ارجعوا إلى قومكم راشدين. ثم التفت لمن حوله بعد انصرافهم وهو يضحك ملء شدقيه: شعب مثل هذا يناسبه حاكم مثلي.

إن المثقفين يتصارعون ويصيحون في المحطات الفضائية ليختاروا أي زعيم يلبسوه ثوب الخيانة أو البطولة. ويبقى الداء خفياً. ويطلق سراح المجرم الأساسي (المثقف) ببراءة كاملة.