دروس التاريخ لم يستوعبها حكام تركيا

TT

كلا، ليست هذه هي الطريقة التي يحتفي بها رجب طيب أردوغان بالذكرى الأولى للانتصار التاريخي الذي حققه حزبه في الانتخابات. ففي وقت مبكر من العام الحالي وفي لقاء مع مجموعة من الصحافيين في سويسرا تحدث رئيس الوزراء التركي عن آماله بـ«عام من التغيير الايجابي» في بلد متعطش للإصلاح.

وأوضح ان الفكرة تمثلت في «تسريع عملية اعادة القوات المسلحة الى دورها الملائم»، واتخاذ «آخر الخطوات الكبيرة» باتجاه عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي بينما يمكن للاقتصاد، الذي يعاني من الركود منذ عقد من الزمن، ان يبدأ اظهار دلائل على الانعطاف.

وما لم يكن أردوغان ليستند اليه هو موجة الهجمات الارهابية التي يمكن ان تكشف عن الضعف الأساسي في استراتيجيته السياسية.

وقد ألقت هجمات الشهر الحالي في اسطنبول الشك على قدرة أردوغان على المضي بخطته لإعادة صياغة الجمهورية التركية عبر إبعاد الجيش عن السياسة. ويعتقد كثير من الأتراك، وبينهم البعض في حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، انه بتهديد الارهاب للبلاد فان الوقت غير مناسب لاختيار معركة مع القوات المسلحة. فقد تحولت الهجمات الى مصدر لزيادة الدعم الشعبي للأحزاب العلمانية التي ترغب في ابقاء الجيش في مركز الحياة السياسية التركية.

وتقوض الهجمات الارهابية، أيضا، آمال أردوغان في انتعاش اقتصادي حقيقي. ومن المؤكد ان الاقتصاد التركي ظل يظهر بعض الدلائل الايجابية خلال الأشهر القليلة الماضية بفضل الاتساع في عجز الميزانية. ولكن هناك دلائل على ان الهجمات الارهابية تمارس تأثيرا محبطا على المزاج التركي عموما. فقد تلقت السياحة، التي تعتبر ثالث أكبر مصدر للعملة الصعبة في البلاد، ضربة قوية بينما تبقى التأثيرات على الاستثمارات في المديين المتوسط والبعيد بحاجة الى تقييم.

أما البند الرئيسي الثالث في استراتيجية أردوغان، متمثلا في طريق تركيا السريع نحو الاتحاد الأوروبي، فيواجه التهديد أيضا. ومن غير المحتمل ان يؤدي أفق تحول تركيا الى ميدان جديد للارهاب الاسلامي الى تعبئة دعم أكبر للطموحات التركية في اطار الاتحاد الأوروبي.

وحسبما كان متوقعا فقد نسبت هجمات اسطنبول الى تنظيم «القاعدة». ويلائم هذا النسب أردوغان على نحو جيد. ان مجرد ذكر كلمة «القاعدة» يعد ضمانة للفت انتباه واشنطن، بأمل الحصول على دعمها. وبادعائه بأن الارهابيين هم «عناصر أجنبية» يمكن لرئيس الوزراء ان يعزز وهم ان الأتراك ضحايا عدو خارجي.

غير ان الحقيقة هي أن الهجمات الارهابية التي حدثت في اسطنبول هي، جزئيا على الأقل، نتيجة ما يقرب من ربع قرن من محاولات «أسلمة» السياسة التركية، وهي محاولات لعب فيها حزب أردوغان وأسلافه الأربعة دورا بارزا.

وتعاني تركيا اليوم ما عانته ايران ودول عربية عدة منذ ستينات القرن الماضي: غول إسلامي خلقته مؤسسة تحولت أخيرا ضده.

وكان أول شخص فكر في اقامة قوة اسلامية، ضد اليسار في ذلك الوقت، رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي أطيح به في انقلاب وأعدم عام 1960.

ولم ترفع الجماعات الاسلامية التي كان قد شجعها، بل مولها جزئيا عبر أموال عامة، اصبعا لمساعدته في ساعة شدته. وكان هذا يعود، حسب كلمات الزعماء البكتاشيين الذين تمتعوا برعايته، الى ان مندريس لم يكن «اسلاميا بما فيه الكفاية».

واذا ما وصلنا الى السبعينات من القرن الماضي نجد سليمان ديميريل، وريث مندريس السياسي الذي لعب الورقة الاسلامية. واستفاد ديميريل تكتيكياً وأفلح في ان يصبح رئيس وزراء مرتين. غير انه واجه، في الوقت نفسه، مواقف سلبية من جانب حلفائه الاسلاميين الذين وجدوا انه لم يكن اسلاميا بما فيه الكفاية.

وكان هناك رجل واحد اعتقد انه لعب الورقة الاسلامية على نحو كامل وهو نجم الدين أربكان المعروف لأتباعه باسم «الخوجة»، أي «السيد».

وفي عام 1996 أفلح «الخوجة» في تحويل حزب اسلامي صغير يحمل اسم «الرفاه» الى شريك كبير في تحالف مع أحزاب يمينية عدة. وعلى الرغم من ان حكومة أربكان لم تدم سوى ما يزيد على السنة قليلا، فقد أفلحت في تقوية الجماعات الاسلامية بوسائل عديدة خصوصا عبر الاعانات الحكومية. غير ان أربكان واجه، أيضا، مصير أسلافه ممن لعبوا ورقة الاسلام كآيديولوجيا سياسية ضد القوى اليسارية والليبرالية. وبحلول عام 1998 انتهت مهمته إثر حظر حزبه.

وفي اطار السياسة الداخلية تتمتع الأحزاب التركية ذات التوجهات الاسلامية بتاريخ يمتد الى 25 عاما من ممارسة السلطة على مستوى المجالس البلدية. وفي ذلك المستوى ألحقوا أفدح الأضرار بتقاليد تركيا السياسية.

ومنذ أواسط الثمانينات صاغ الاسلاميون تحالفا غريبا مع قوات الأمن ضد ما اعتبروه «أعداء مشتركين». وفي ذلك الوقت رأى الجيش في حزب العمال الكردستاني، وهو حركة شيوعية انفصالية، وحلفائه الماركسيين الآخرين، الأعداء الرئيسيين للبلاد.

واذ اشتركت في الموقف من تلك العداوة، ضمت الأحزاب الاسلامية جهودها الى جهود أسوأ عناصر الجيش وأجهزة الأمن لإقامة عدد من فرق الموت ضد حزب العمال الكردستاني والجماعات اليسارية والليبرالية الأخرى.

وكان أسوأ فرق الموت هذه سمعة يعمل تحت اسم «حزب الله»، وهو تشكيلة أسسها، أصلا، رجال الدين في طهران ولكنها اخترقت من جانب قوات الأمن في تركيا.

وفي يوليو (تموز) عام 1993 كتب «حزب الله» التركي واحدا من أكثر الفصول مأساوية في تاريخ الارهاب الحديث في تركيا. فقد هاجم مقاتلوه فندقا في سيفاس الواقعة شرق الأناضول، حيث كان العلويون، وهم طائفة معتدلة ظلت تدعم العلمانية على الدوام، يعقدون اجتماعا. وقد أغلق المهاجمون جميع المنافذ في الفندق وأشعلوا فيه النيران. وأدى ذلك الى مصرع ما يقرب من 40 شخصا، بينما قامت الشرطة المحلية، التي كانت تعمل تحت امرة المجلس المحلي الذي يقوده حزب «الرفاه»، بضرب أولئك الذين حاولوا الهرب.

وبحلول عام 1997 كان اختراق «حزب الله» التركي كبيرا الى حد ان طهران قررت قطع صلاتها معه وتأسيس جماعة جديدة تعرف باسم الفصيل الاسلامي.

وفي غضون ذلك ظهرت الى الوجود جماعة ارهابية اسلامية أخرى تحت اسم «جبهة مقاتلي الشرق العظمى».

وإذ تأسست، كما يبدو، لتجنيد «المقاتلين الأتقياء» لمقاتلة الأرمن في ناغورنو كاراباخ والروس في الشيشان وداغستان، فان «الجبهة» وجدت من الأسهل عليها ان تقتل الناس في تركيا ذاتها.

وبين أعوام 1985 و2000 قتل أكثر من 800 شخص في أعمال عنف مختلفة نفذتها جماعات اسلامية. وذلك لا يشمل ضحايا الصدامات بين قوات الأمن والجماعات الارهابية الدينية والاثنية المختلفة. وكان بين أولئك الذين قتلهم ارهابيون اسلاميون قضاة وصحافيون وأكاديميون وسياسيون وأطباء، بل حتى ربات بيوت.

وقد نشأ نموذج خلال ربع القرن الماضي. ففي كل مرة تأخذ فيها الأوضاع السياسية التركية انعطافة اسلامية، فان الحركة الاسلامية الأوسع تصبح أكثر راديكالية وعنفا.

وقد ارتكب أردوغان الخطأ ذاته الذي ارتكبه قبله مندريس وديميريل وأربكان: الزعم بأن الآيديولوجيا الاسلامية يمكن ان تكون معتدلة.

ان ما لم يدركوه هو انه اذا ما كان المرء نفسه اسلاميا سيكون هناك، دائما، شخص ما يدعي أنه أكثر اسلامية منه.

ففي ايران كان الخمينيون الذين استولوا على السلطة باسم النزعة الاسلامية أول ضحايا آيديولوجيتهم. وبين أعوام 1979 و1983 قتل ما يزيد على 400 من رجال الدين والسياسيين الخمينيين على أيدي متطرفين اسلاميين اعتبروهم غير اسلاميين بما فيه الكفاية. وفي الجزائر، مثلا، انتهى حتى عباسي مدني وعلي بلحاج، زعيما الجبهة الاسلامية للانقاذ، الى ان يكونا على رأس قائمة المطلوبين من قبل «الجماعة الاسلامية المسلحة» التي تعتبرهما «ملحدين يجب ان يقتلا».

ولا علاقة كبيرة للهجمات الارهابية التي حدثت في تركيا بالعراق أو حتى بالكراهية المتصاعدة للولايات المتحدة. فالعراق والكراهية ضد الولايات المتحدة يجري استخدامهما كذريعة من جانب الجماعات الاسلامية التي ترغب في تدمير حكومة أردوغان، لأنهم يعتقدون انها ليست «اسلامية بما فيه الكفاية».

ان السبيل الوحيد لمعالجة التهديد يمر عبر اقامة جبهة شعبية واسعة تكرس نفسها لقيم وتقاليد الديمقراطية التركية. ويمكن لأردوغان ان يحتل مكانة بارزة في ذلك الاتجاه. ولكن قبل ان يفعل ذلك يجب عليه ان يدرك ان كل من يخلط السياسة بالدين يجازف بانفجار ذلك المزيج في وجهه.