أبراج

TT

يسألني بعض اصدقائي كلما عدت من دبي اسئلة من تلك التي كانت تطرح على مسافري بساط الريح ومشاهدي طائر الرخ. والذين يسمعون عن دبي ولم يروها بعد، لا تصلهم منها الا حكايات الابراج العالية وجزر الطمر. وقبل ايام سألني صديق في بيروت بلهجة تحميل المسؤولية: «لماذا تريد دبي ان تبني اعلى برج في العالم؟». وعلى عكس ضيوف الفضائيات الذين يعرفون ماذا دار في البنتاغون او في الاليزيه ليلة البارحة (ولديهم النص ايضا) اجبت بأنني في الحقيقة، لا اعرف. وكوني امضي هذه الايام جزءاً من الوقت مع «العربية»، لا يعني انني اصبحت حجة او مرجعا في امور دبي او في مشاريعها. الذي اعرفه وانا اتطلع من نافذة مكتبي، ان حقول النخيل افضل من بساط الرمل العاري، وان دبي تطمر كل يوم جزءاً من البحر وتعمر فوق جزء من الرمل. واما كيف ولماذا فارجو الاتصال بمكتب الشيخ محمد بن راشد، او موقع دبي على الانترنت.

ليست الابراج شيئاً جديداً في التاريخ. لقد بنى المسيو ايفل البرج الذي حمل اسمه من اجل ان يميز باريس في معرض تجاري، فكان ان ميزها الى الابد بشاهق جمالي. وبنت نيويورك اعلى برجين تجاريين في العالم فجاءت كوكبة من المبدعين ودمرتهما على رؤوس من فيهما واجسادهم واكبادهم. وبنت تورنتو اعلى برج على الاطلاق لانها مدينة مسطحة وتريد التقاطاً تلفزيونيا نقيا يمكنها اذا شاءت ان تحضر برامج الزعيق العربية وحركات الايدي الهتلرية وصراخ غوبلز الذي قضى على آخر الماني قبل ان يسكت ويكف وتعود المانيا دولة مذهلة.

طبعاً الابراج بدأت في بابل او بالاحرى في العراق، حيث بنى البابليون ابراجا تعلو على مائة قدم. ثم بنوا اعلى الابراج فارتفع 300 قدم وسمي برج بابل. وكانت بابل ايام نبوخد نصر الثاني اكبر مدن المعمورة، يسكنها ربع مليون نسمة (حوالي 500 قبل الميلاد)، وعندما أسر اليهود ونُقل نحو اربعين الفاً منهم الى بابل كان اول ما بهرهم البرج العالي. فهم من مجتمع مليء بالاكواخ. وخيل اليهم ان الهدف من البرج هو الوصول الى السماء، فشعروا بالخوف. وظنوا ان تعدد اللغات في بابل غضب رباني وانتقام من محاولة الوصول الى السماء. وعاد اليهود من بابل بتلك الخرافة كما حملوا معهم عادات كثيرة، منها الراحة يوم السبت او «الشباتوم» بالبابلية. ومن العلوم البابلية عرف العالم الشهر وتقسيم الايام والدرجات الدائرية.

ورسخت في ذاكرة العالم فقط صورة الفوضى في برج بابل. وعندما تحدثت مارغريت ثاتشر عن الوحدة الاوروبية قالت ان في القارة من اللغات المختلفة ما كان في بابل. وكذلك في دبي، هذا الملتقى البشري الذي يحتضن من الحضارات والثقافات واللغات اكثر من اي تجمع بشري آخر. وعلى صغر مساحتها تكاد تكون هناك خمس لغات رئيسية مثل الهند. وتجمع الانكليزية بين الباكستاني والصيني والكوري والبيلبيني والقادمين من التبت. وتبدو المجمعات التجارية يوم الجمعة مثل بابل ايام نبوخذ نصر او بغداد ايام الرشيد، يوم كانت عاصمة العالم وملتقاه. اما الذي يجمع البشر اكثر من اللغات فهو الكفاية والرفاه وحكم القانون ومناخ الأمن والشعور باستقلال القضاء. ولا يقوم او يبقى بلد في الارض قاضيه فاسد او فاسق او رخو الكرامة. وتهترئ الارض من تحت اقدام القضاة المسخرين وخلاة الضمائر. ويلجأ قصر باكنغهام الى القضاء البريطاني مثل اي مواطن او مقيم. واستطاعت قاضية فرنسية من اصل نروجي ان ترسل الى السجن كبار سياسيي فرنسا وان تخرج بعضهم من الحياة المدنية. وقد بدأ الاهتراء في العالم العربي عندما اصبح القاضي شرطياً برتبة عريف عند ضابط المخابرات.