أعلى الشهادات

TT

ترك الزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط ارثاً أدبياً مهماً في الشعر والفلسفة والنقد والحياة، بالفرنسية وبالعربية. وكان أبي، لا أنا، أول من حمل كتبه الى البيت. اما أنا فمثل بقية جيلي كنت اشكك في السياسيين وفي جدِّيتهم وفي مواهبهم الأدبية واثرهم وتأثرهم الوجداني. غير انني عدت فعَّرفت النفس على عطاء كمال جنبلاط الفكري. ولم يكن الفكر السياسي نادراً في ايامه بل غزيرا وكان المعنيون به كثيرين، بعكس القحط الحالي. غير ان جنبلاط ذهب في رحلاته الفكرية في كل اتجاه. وكان يقضي وقتاً طويلاً في الهند كل عام، ويلتقي مفكريها، او يسافر الى فرنسا ليغرق في مكتباتها. وقد قرأت العام الماضي مجموعة شعرية وجدانية من اعماله، لست ادري كيف اصنّفها. لكنني تساءلت وأنا اعيد قراءتها غير مرة ببطء وتعمق واندهاش، ان لم يكن كمال جنبلاط السياسي قد هدر الكثير من وقت وعطاء كمال جنبلاط الشاعر والأديب.

ولا أدري كيف كان سياسي لبناني يجد الوقت الكافي للقراءة او الكتابة. لكنه طالما اعتزل عن الآخرين من اجل ذلك. وألغى حياته الاجتماعية كلياً من اجل حياته الفكرية. وكان يختلي الى دفتره وكتابه في باكر العشايا وينهض في باكر الفجر، من اجل ان يعطي يومه معنى غير عوابر وغوابر اليوميات السياسية ونوافلها.

ومن الكتب الشيقة التي وضعها، كتابه «أدب الحياة»، وحاول من خلال فصوله ان يعلم القارىء العادي في المطلق ولكن ايضاً محازبيه ومناصريه وزواره، كيف يحترمون اوقات الآخرين وراحتهم وكيف يسلكون المسلك الحسن في علاقاتهم مع مجتمعاتهم. وحذر هؤلاء بطريقة غير مباشرة من الاعتداء على وقته من دون استئذان: «لأن من أصعب الامور على العاملين في حقل الفكر او العلم او القيادة الاجتماعية او الادارية والسياسية والاقتصادية على السواء، ان يُقطع تيار فكره وسعيه وجهده، لكي ينتقل الى معالجة شيء آخر لا علاقة له البتة بالمشاغل التي هو منصرف اليها بحكم مهنته وواجبه».

ولم يجد في الراحة عيباً بل واجباً: «الراحة حق للجسم والعقل علينا. فمن يعمل يتوجب عليه ويحق له ان يرتاح وان ينام هنيئاً وان يأكل هنيئاً وان ينصرف الى عائلته هنيئاً وان يخرج في نزهته هنيئاً». وكان يستثقل الحشرية والحشريين والفضوليين والثقلاء الذين لا يكفون عن استباحة حميميات الناس وخصوصياتهم. «فالعيون الملَقَة والتي تشع بالحشرية تؤذي، وما اثقل ارباب الحشرية والوقاحة. فأدب النفس يبدأ عندما نتخلى عن هذه الحشرية وعن هذا المَلَق وعن هذه الوقاحة في التطلع والتسرق، وانما يحترم الانسان نفسه على قدر ما يحترم الآخرين».

يروي الدكتور أمين الحافظ انه عندما بلغ سناً معينة. استدعاه والده الشيخ اسماعيل الحافظ، أحد شيوخ القدس آنذاك، وقال له: «انني مرتاح جداً الى ابلائك في دروسك. وهذا يدل على ان التعلم ليس مشكلة عندك. والحمد لله انه ليس مشكلة بالنسبة الينا، فنحن قادرون على الصرف على تعليمك. لكنني احب ان اقول لك شيئاً واحداً قبل ان تمضي في طريقك. فمهما حصَّلت من علوم ومهما حملت من شهادات، لن ينفعك ذلك في شيء اذا كنت تفتقر الى امرين: الذوق والوفاء. انهما الشهادة الأعلى».