أهو الهدى المسبق .. أم التجربة والخطأ؟

TT

هذا تمام المقالين السابقين.. ومفتاح المقال الماثل سؤال: المسلم ـ بصفته ـ: هل يكتشف الطريق الحق، ومعايير الفعل الصالح، والسلوك الراقي المهذب الرفيق المفعم بالخير والرحمة والإيلاف وبذل السلام للخلق أجمعين.. هل يستمد هذا كله من (هدى مسبق).. أم يكتشفه (من خلال التجربة والخطأ)، بمعنى أن يخبط في التيه، ويتخبط في الظلال فيظلم، ويعتدي ويقتل ويخرب ويحرم العامة من الأمن، ثم يتبين انه وقع في خطأ.. ثم يقول: أنا متأسف.

متأسف!!.. وهل قتل الإنسان بمثابة قتل بعوضة، أو بمثابة مس كتف بأذى خفيف في زحام؟!

ان طريقة (التجربة والخطأ) تصلح في مجالات معينة مثل: الإدارة، وطرائق التدريس، والبحوث العلمية والتقنية (وحتى في هذه المجالات: ثمة مبادئ عامة يستهدي بها العاملون أو المخططون) وشأن المسلم في هذه المبادئ شأن سائر البشر، أي انه يكتشف مزيداً من الصواب والسداد بمزيد من التجارب والخبرة المتراكمة.

أما الاعتقاد ومعايير العمل الصالح والتفكير السليم، والسلوك القويم، والخلق الرفيع، فان المسلم يستمدها من(هدى مسبق): محفوظ ابداً في الكتاب المنزل، والسنة الصحيحة، ولا يكون مسلماً إلا بذلك، ذلك أن التخبط في هذا المقام إنما هو شأن الذين لا يؤمنون بوحي قط، أو الذين فصلوا بين الدين وبين تلك القيم.

وهذه منظومة من البراهين المستفيضة المحكمة الدالة على أن المسلم إنما يستمد معايير وأحكام اعتقاده وفكره وفعله وسلوكه في هذه المسائل من الهدى المسبق لا من التجربة والخطأ:

1` ـ «وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».

2 ـ « ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض».

3 ـ »الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب».

4 ـ «وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم».

5 ـ «ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم».

6 ـ ولضرورة وجدوى(الهدى المسبق) يجأر المسلم دوماً بالدعاء إلى ربه وإلهه ومولاه:

أ ـ «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب».

ب ـ «اهدنا الصراط المستقيم».

والآية الأخيرة هي رقم 6 من سورة الفاتحة، وهي السورة التي فرض على المسلم قراءتها 17 مرة كل يوم في الصلوات المكتوبة، وهو يقرؤها أكثر من ذلك حين يصلي نوافل الصلاة.

وكيف يدعو المسلم في كل صلاة «اهدنا الصراط المستقيم». ثم يبيت النية على اتباع الطريق المعوج في الاعتقاد ومعايير التفكير والفعل والسلوك، ثم يتبع النية بالتدبير والتنفيذ.

هل كان هؤلاء يؤمنون بـ(الهدى المسبق) وهم يتلبسون بالتفكير الآثم، والفعل الإجرامي؟.. ان الله تعالى يقول: «وان الله لهادي الذي آمنوا إلى صراط مستقيم» فإذا ضل قوم ينتسبون إلى الإيمان ففعلوا ما يناقض الإيمان، فإننا نشك فيهم، ولا نشك في كلام ربنا جل ثناؤه ولسنا غلاة يهوون إخراج الناس من الملة بيد أن هؤلاء على خطر عظيم، وفي أزمة حقيقية تتعلق بديانتهم ذاتها، قبل أن تتعلق بالقضية السياسية أو الإصلاحية التي يدعونها.

مثلاً هم يرددون كثيراً عبارة (الحكم بما انزل الله) وان غايتهم ومناهم هي هذه. ولكن إلا يعلمون: أن من صميم الحكم بما انزل الله: أن يحكموا هم أنفسهم بما انزل الله في اعتقاداتهم وتفكيراتهم وأفعالهم: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وانتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون».

ومن مفاهيم الحكم بما انزل الله التي كان يجب أن يطبقوها على أنفسهم ـ بادئ ذي بدء ـ: «ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً».

«ولا تبغ الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين».

ج ـ «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

د ـ «ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».

ولكنهم لم يفعلوا هذا ولم يلتزموه وبهذا أصبحوا داخلين في نطاق «الذين لا يحكمون بما أنزل الله».. وهذه ليست آية أو علامة إيمان صحيح مكين:«لقد أنزلنا آيات بينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» ويقولون آمنا بالله وبالرسول واطعنا ثم يتولى فريق منهم بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وان يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا واطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون».

ان قضية اتباع (الهدى المسبق) إذ هي أساس الإيمان هي ـ في الوقت نفسه ـ العاصم العملي من الانحراف بالدين أو التدين انحرافاً يصور الدين للناس على انه سوط عذاب وبرك من الدم وأكوام خراب.

والدليل على أن الهدى المسبق (عاصم عملي) وواقعي من هذه الآثام والطامات والمهالك: انه ما من شخص أو فرقة شذت أو أبقت عن هذا الهدى إلا ضلت ورجمت الأمة بكل موبقة وشر ومهلكة.. وهذا الابوق أو الشرود هو ما اتفق العلماء المعتبرون على تسميته بـ(البدعة).

ومن البدعة ما هو مثل اللمم، ومنها ما يجمح بصاحبه جموحاً يحمله على المروق من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.. والخوارج مثال صارخ في هذا الميدان، إذ تسببت بدعتهم في تكفير أهل القبلة، واستباحة دمائهم.

ولندع العالم المالكي الكبير: أبي إسحاق الشاطبي، يبسط مفاهيم البدعة والابتداع في كتابه(الاعتصام) يقول: «ثم استمر الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخوارج عن السنة». وبدعة الخوارج هي التي نبه عليها الحديث بقوله «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم» يعني لا يفقهون في الدين بل يأخذونه على الظاهر. فالبدعة إذن عبارة (عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد إلى الله سبحانه، وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع واليه يضيفها صاحبها، وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.. ولا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها، لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم، ورمي في عماية. ولولا أن الله من على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم، وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين.. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يٌحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.. ولذا فان المبتدع معاند للشرع، ومشاق له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، واخبر أن الخير فيها، وان الشر في تعديها، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وانه إنما أرسل الرسول رحمة للعالمين. فالمبتدع رادّ لهذا كله، يزعم أن ثم طرقاً أُخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع: انه علم ما لم يعلمه الشرع.. والمبتدع قد نزل بنفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع، والزم الخلق الجرْيَ على سننها، وصار هو المنفرد بذلك، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون.

وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام، والمتبدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن انه على هدى..وقد جاء في القرآن ما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة. فمن ذلك قول الله تعالى «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله».

فهذه الآية من أعظم الشواهد وعن مجاهد في قوله تعالى: «ولا تتبعوا السبل» قال: البدع والشبهات.. ولقد جرد الخوارج الحرورية السيوف على عباد الله. وهنا غاية الفساد في الأرض. وذلك كثير من أهل البدائع شائع، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام».

من المفاهيم المحورية في كلام الشاطبي: أن المبتدع معاند للشرع، يقدم هدى نفسه على هدى الشارع، ويصطنع طرقاً خاصة بصورة خاصة لم يأذن بها الله، وان المبتدعين لم يزالوا على بدعتهم حتى يفسدوا في الأرض بإيقاع الفتنة والعداوة والبغضاء بين أهل الإسلام.

وبالعودة إلى النقطة المركزية في المقال يتضح: أن هؤلاء المفسدين في الأرض ـ باسم الجهاد أو الإصلاح ـ قد اعرضوا عن الهدى المسبق واتخذوا التجربة والخطأ طريقاً ومنهاجاً فضلوا عن سواء السبيل.. وهذا عين البدعة المغلظة البواح التي تورد صاحبها موارد التهلكة، وتنزل بالأمة أفدح البلاء والضرر.. ولسنا ندري كيف يدعي هؤلاء السلفية!! والغيرة عليها وهم يبتدعون في الدين ما لم يأذن به الله؟!

ونختم المقال بقبس من الهدى المسبق: فآية: « فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» ربطت ربطاً معجزاً بين الفتنة والتأويل الفاسد للدين. إذ أن الثاني يكون ـ دوما ـ مقدمة تمهيدية للأولى.