«مصر الأم».. ابنة الحضارة الفرعونية القبطية العربية الإسلامية

TT

في وقت المحن والأزمات تنمو العديد من الظواهر، معظمها سلبي، وبعضها إيجابي. واليوم ونحن نمر بوقت محنة حيث تواجهنا يومياً العديد من الظواهر السلبية، أو لنقل الافرازات السلبية، ومن بين ما نشهده اليوم هو تلك الدعوة الجديدة القديمة التي خرجت في مصر هذه الأيام تدعو للقومية المصرية، وتهاجم أي انتماء عربي، وهذا من خلال حزب جديد تحت التأسيس تقدم إلى لجنة الأحزاب في مصر تحت اسم حزب «مصر الأم». ويكتسب هذا الحزب الجدل المثار حوله لسببين، الأول هو الفكرة التي نشأ عليها وهي الهجوم على الثقافة السائدة في المجتمع باعتبارها معادية للقومية المصرية، حيث ينادي بمقاطعة فكرة القومية العربية، وكذلك الاسلامية والتمسك فقط بالشخصية المصرية، والسبب الثاني أن وكيل المؤسسين هو ابن شقيق أحمد لطفي السيد استاذ الأجيال كما يطلق عليه، وأحد الرموز الفكرية المهمة في مصر في النصف الأول من القرن الماضي.

ويشن أصحاب هذا الحزب هجوماً ساحقاً على كل ما ينتمي إلى القومية العربية، ويشككون في أساس الفكرة، بل يعتقدون أن فكرة القومية العربية هي في الأساس فكرة استعمارية، ويدللون على ذلك بأن الجامعة العربية أنشئت بدعم بريطاني، وأن إذاعة «صوت العرب» أنشئت بدعم وتمويل أميركي، وبالتالي فإن كل ما ارتبط بفكرة القومية العربية هو مجرد نتاج لمشروع استعماري ومؤامرة كبرى على كل شعوب المنطقة لا ندركها نحن، وإنما يدركها فقط أصحاب تلك الفكرة الضيقة الأفق والتي يتبناها أصحاب هذا الفكر.

الغريب أن تظهر مثل هذه الأفكار في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو التكتل، فلم يعد هناك مكان في عالم اليوم للدول التي ترى في نفسها كياناً متكاملاً في غنى عن الآخرين، وهي في الحقيقة غير ذلك، إذ أصبح عالم اليوم هو عالم التكتلات الدولية بين الدول صاحبة المصلحة المشتركة، ومن باب التكرار والتذكير بالسوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي، ولكنه يظل مثالاً صالحاً للتذكير به في كل مرة تظهر فيه مثل هذه الأفكار.

أتفق مع ما ذكره الدكتور يونان لبيب رزق المؤرخ المهم والمعروف في أنه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الأحزاب أو الأفكار وعدم اضاعة الوقت والجهد في مناقشتها، وهذا الرأي صحيح، ويدلل على ذلك أن كماً من الأفكار المشابهة مرت على الفكر المصري طوال العقود الماضية، ولكن مثل تلك الأفكار لم تصمد أمام الحقيقة الراسخة حول انتماء مصر العربي والاسلامي والقبطي، الشخصية المصرية هي نتاج لهذا التراكم الحضاري بين الثقافات والحضارات المختلفة التي مرت على مصر. وغنى هذه الشخصية إنما يأتي من ذلك التراكم والتفاعل بين الحضارات والثقافات التي احتكت بها وعاشت فيها على مر العصور. الخطأ الكبير يكمن في طرح الهوية المصرية في مواجهة الهوية العربية أو الاسلامية أو القبطية، لا مجال هنا لمواجهة أو تناقض، وانما هي علاقة تكامل وتجانس وتفاعل. ولكن كما ذكرت في البداية فإن الأزمات تفرز أحياناً أسوأ ما فينا، كما أنها يمكن أن تظهر أحسن ما فينا إذا ما فهمنا بحق حقيقة وواقع حالنا، وامتلكنا مع ذلك ارادة حقيقية في الفهم وامتلكنا أدوات الخروج من الأزمة.

مفاهيم القومية العربية والمصير المشترك والارادة الواحدة وغيرها من المفاهيم المشابهة التي عشنا عليها لعقود، في حاجة إلى مراجعة، ليس لنا نفيها أو ألغاؤها، ولكن لاختبارها ومحاولة اكتشاف مكامن الخلل فيها أو فهمنا لها، والبحث عن تعريفات وتطبيقات أكثر واقعية لها حتى يمكن أن تتحول إلى تطبيقات تمس حياة المواطن في كل مجتمع. البعد عن عاطفية المفهوم والأساس الجديد الذي يصلح لمثل هذه المرحلة التي نعيشها، ليس الغناء للقومية، ولا التغني بعلاقة الأخوة والمصير المشترك هو الطريق الذي يصلح في هذه المرحلة، لكن الارتباط المصلحي هو السبيل.

في وقت الأزمة تخرج علينا أمثال تلك الأفكار الانعزالية، وأيضاً في الأزمة يمكن أن تنجلي أمامنا الرؤية، ويمكن لنا أن نستخرج ما غاب عنا طويلاً في ممارساتنا طوال العقود الماضية، ألا وهو المنطق والواقعية في التعامل مع واقعنا.

يدعو أصحاب الحزب الانعزالي الجديد إلى تدريس تاريخ مصر الفرعونية واللغة الهيروغليفية في كل مراحل التعليم، ولعل هذا أكثر ما أتفق فيه معهم، نختلف في الهدف النهائي ولكن نتفق في الأسلوب، فهم يريدون ذلك تأكيداً لعدم عروبة مصر، ولكني أطالب بذلك لتأكيد الشخصية المصرية المتعددة الحضارات، فمصر اليوم هي بنت الحضارة الفرعونية والقبطية والاسلامية والعربية، ونتاج هذا التفاعل هو «مصر الأم» الحقيقية لا التي يدعون إليها.