تغير «كوزمو».. وتغيير ما بالنفوس والرؤوس!

TT

احتفت «الصاندي تلغراف» اللندنية أول من أمس بقصة اعتبرتها مثيرة للاهتمام، وهي كذلك. القصة تخص «كوزموبولتان»، المجلة الاميركية، الناجحة عالميا (توزع اربعة ملايين نسخة شهريا، وتصدر في ثمانية وعشرين بلدا، وبعد سنتين تبلغ من العمر قرنا وعشرين عاما). لماذا اهتمام أهم الصحف توزيعا بين الصحف البريطانية الرصينة بالمجلة النسائية المغرمة بقصص الغرام... والجنس؟ السبب ان «كوزمو» ـ اختصارا ـ قررت اجراء تغيير في سلوكها. تغيير ثانوي، أم ثوري؟ الاجابة تتوقف على الموقف من موضوع التغيير، وهو بالتأكيد ليس بسيطا، انه: الدين. ولا بد من توضيح هنا ـ ليس لمن يعرف أو من تعرف «كوزمو» ماضيا وحاضرا ـ خلاصته ان هذه مجلة تتباهى بصراحة يراها غيرها وقاحة وقلة أدب. لكن هذا لم يمنع «كوزمو» من الجهر، بالصراحة نفسها، انها بحاجة لان تتغير وان تراجع اهمالها التام للجانب الديني، وان تخصص محررة للشؤون الدينية.

هبّ رجال ونساء من الكنيسة فصرخوا: هذا خداع ومتاجرة بالدين. لكن آخرين من أهل الكنيسة ايضا، كانوا أكثر هدوءا وحكمة، فقالوا ان كل خطوة تقرّب الانسان من الدين يجب ان تكون موضع ترحيب. من جهتها، رأت سيدة «كوزمو» الأولى، لورين كاندي، ان الأمر اكثر بساطة، قالت: «منذ فترة نتلقى شهريا مئات الرسائل من شابات ناجحات جدا في الحياة المهنية لكنهن يعربن عن الحاجة الى ما هو اكثر من الماديات في الحياة، ابحاثنا اوصلتنا الى ان النساء صرن يلجأن للصلاة اكثر من أي وقت مضى، شابات كثيرات يبحثن عن الجانب الروحي، ويجب ان نساعدهن».

حقا، مسألة في غاية البساطة واجهت عقليتين. واحدة تعاملت بالشك والريبة، فسنّت الألسنة ضد «كوزمو» ونياتها. وثانية تعاملت بحسن الظن فقالت كلاما يأخذ بيد «كوزمو» ويشجعها على خطوتها. هما عقليتان بينهما فرق هائل يستطيع ان يراه كل من يريد ان يبصر ويعقل. ترى، أمن التبسيط ان نسحب المقاربة ذاتها على ما يجري بين العرب المسلمين؟ ربما، بيد ان الحاح المقاربة يفرضه نمط مشابه عانينا منه طوال الخمسين سنة الماضية، وهو ازداد حدة منذ مصيبة الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 ثم انه ينمو في شراسة متزايدة. حقا، اننا امام عقليتين تعترف كل منهما بوجود الاخرى، وتختلفان في كل أمر عدا واحد: الالغاء. أما اسلوب الالغاء فليس بأقل من السحق، أو قل الاستئصال! واذا استمر الحال على هذا المنوال، فابشروا بطول ليل الكابوس وبمزيد من الولوغ في برك الدم.

غريب هذا الواقع. لماذا الاصرار على فظ الكلام وغليظ المشاعر والتشكيك في النيات. هذا هو مثلث التعامل بين تياراتنا، أحزابا وحركات ومؤسسات وأفرادا مستقلين، الا من رحم ربك، طوال اكثر من نصف قرن. أليس ممكنا ان يقرأ القوميون بحسن نية كلاما يقوله، أو اجتهادا يقترحه ليبراليون؟ كلا، عيب. أمن الصعب ان يحسن الليبراليون أو العلمانيون الظن بخطوة ما يقدم عليها اسلاميون؟ طبعا صعب جدا، لا بل مستحيل. ألا يجوز ان يستبشر الاسلاميون خيرا بأية بادرة تحاور او تفاهم يبديها ليبراليون او علمانيون؟ بالتأكيد لا يجوز، حرام.

كم هو مؤسف هذا الحال. محزن. مؤلم. محبط. وكم هو مخطئ وكارثي ايضا. لماذا هذه «الشيزوفرينيا» المتعددة الأبعاد؟ ها هم الليبراليون الذين ديدنهم حرية الرأي، لا تضيق صدور أغلبهم الا بانفاس القوميين أو الاسلاميين من بني جلدتهم. أغلب الليبراليين العرب والمسلمين يهشون ويبشون لكل من يخالفهم الرأي، من اصقاع سيبيريا الى شواطئ فلوريدا، أما من داخل دارهم، فلا.. لا، يصرخون في وجهه: امش، امش، ثم يسلقونه بألسنتهم، فاذا لم يكف هذا شووه بأقلامهم، ولو تمكنوا لصلبوه على المشانق. والحال نفسه ينسحب على غالبية القوميين في التعامل مع الاسلاميين والليبراليين، مع اضافة مشاوي التخوين والتعميل، وهكذا ايضا في تعامل أغلبية الاسلاميين مع الليبراليين والقوميين والعلمانيين، مع اضافة جهنم التكفير والاخراج من الملة. باختصار، الكل يطرد الكل مذموما مدحورا كما طرد ابليس من الجنة. وهنا عقدة العقد. احتكار الحق والحقيقة، حتى لو كان الحق هو الثمن والحقيقة هي الضحية!

انظر الى أمر الله لنبيه موسى واخيه هارون: «اذهبا الى فرعون إنه طغى فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر أو يخشى». وما أبعد الأغلبية عن ليّن القول هذه الايام. انظر الى ما وضع الله على لسان ابي الانبياء ابراهيم عليه السلام: «فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم». أما أغلب زعاماتنا الفكرية هذه الايام فيقول ما معناه: من تبعني فهو حبيبي ومن عصاني فويله من لساني أو.. عصاتي!! انظر الى توجيه الله لخاتم الانبياء والرسل: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»... «قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». هذا هو منطق الحق، عز وجل، ولا مقارنة معه، انما فيه تذكير بخلل منطق أغلب قياداتنا السياسية والفكرية، باختلاف ألوانها ومشاربها، منطق: من ليس معنا فهو ضدنا، آمنوا بنا وانصاعوا لنا والا فالارهاب آتيكم، ان بسيارة مفخخة (وهذا اكثره اجراما ودموية) أو بقذيفة تخوين، أو بألسنة سلق وتسفيه، أو بالصد والتشكيك (وهذه أساليب اغتيال للشخصية وان لم تسل الدماء). الواقع ان الارهاب ارهاب، ولو تعددت الأسباب ولم تتساو النتائج، وما لم يتغير ما في النفوس لن يحدث التغيير في الرؤوس. عندما تصفو النفوس ينهار ضلع التشكيك في النيّات، فيسهل انهيار ضلعي فظ القول وغليظ المشاعر، وتبدأ حركة تكون فيها بركة نحو تغيير حقيقي، وليس فقط على غرار «كوزمو». انه تغيير كبير يحتاجه العرب والمسلمون، ولن يحدث تغيير في حالهم من دونه.

[email protected]