تناقضات المجتمع العربي: نخبة مشرذمة ورعية متدروشة!

TT

تصعد درجات قليلة. تعبر بقفزة سهلة أقدم قناة للمياه في التاريخ. تدلف من الباب المتواضع إلى صحن الدار، فإذا أنت في بيت عربي رائع.

قاعات أرضها من الرخام الأبيض، سقوفها وجدرانها موشاة بزخارف هندسية ونباتية. بحيرات تتوسط ساحة الدار والقاعات تغدق عليها أفواه سباع حديدية مياه بردى المتسللة الى دمشق القديمة عبر شبكة من الأقنية الدقيقة الظاهرة والخفية التي لا يُعرف كيف تم مدها وحفرها عبر ألوف السنين. عرائش العنب الأبيض الصلب تتدلى مع عرائش النباتات بزهورها من الدور (الطابق) الصيفي الخشبي على صحن الدار، لتمنح مع أشجار الكباد المكان راحة نفسية وبيئية بهيجة.

في هذه الدار الدمشقية القديمة في حي القنوات كانت المحكمة الشرعية تقيم قبل انتقالها إلى قصر العدل. كانت الدار ترفل بثوب كهربائي مشع في العشر الأخير من رمضان، حتى إذا ما جاء غروب اليوم التاسع والعشرين نزل قاضي القضاة الشيخ عبد العزيز الخاني إلى صحن الدار يستقبل مع قضاته وموظفيه الزوار من أهل المدينة الذين جاءوا منتظرين استطلاع هلال شوال.

كان شهود الهلال يتسلقون مآذن الجامع الأموي الشاهقة، فإذا رأوا الهلال، سارعوا إلى المحكمة يبلغون قاضي القضاة بظهوره، فيعلن رسميا أن الغد هو عيد الفطر. وإذا لم يتمكن الشهود من رؤيته أكمل الصائمون صيام اليوم الثلاثين من رمضان.

أنقل هذه الصورة عن دمشق في أواسط الأربعينات. فلم يكن علم الرصد ـ وما زال ـ يتدخل في إثبات ولادة الهلال! الغريب أن الشهود لم يكونوا يقصدون جبل المهاجرين المطل على دمشق لاستقصاء الرؤية. ولعل التقليد أن يتم ذلك من خلال «العمشقة» على قمة مئذنة «سيدي يحيى» في المسجد الأموي، ربما تأكيدا لشرعية الرؤية.

الطريف أن القاضي الجليل كان يثق بحدة بصر أحد هؤلاء الشهود المجهولين. وكان الرجل متخصصا في تسلق قمة «سيدي يحيى» الصعبة. وأفطر السوريون غالبا في اليوم الثلاثين بفضل رؤيته التي لا تخطئ. فقد كان الشاهد أعور العينين!

سقى الله تلك الأيام ورعى ذكراها. فقد كانت في وداعتها وبساطتها مثالا على الانسجام الديني في المجتمع العربي. أين منها هذا الخلاف الناشب الآن حول رؤية الهلال؟! تفطر مصر والسعودية وسورية معا، وتصوم اليمن وإيران! وتفطر سنّة العراق وتظل شيعته حائرة! بعضها يفطر مع السنة، وبعضها يصوم مع إيران. السنة تفتي مكتفية باستقصاء القمر هلالا، فيما الشيعة تفتي بانتظار رؤية الهلال واضحا في كبد السماء.

الخلاف شكلي، لكنه يكبّد العرب والمسلمين بلبلة في التأريخ القمري، وما تسببه هذه البلبلة من اضطراب في العلاقات الرسمية بين الدول الإسلامية، ومن تكاليف اقتصادية ومعاشية باهظة. وهو أيضا ظاهرة من ظواهر الشرذمة والانقسام بين نخبة أهل الفتوى في المجتمعات والمذاهب الإسلامية.

مع صعود المد الديني، تكاثرت فتاوى المرجعيات الدينية التقليدية في كل الشؤون. الاختلاف في الفتوى والتمسك بها أو مهزلة الرجوع عنها يظهر واضحا حتى داخل المرجعية الواحدة. كل صاحب فتوى يختار من الاجتهاد القديم أسانيد معينة ويهمل أسانيد مخالفة. ويضيِّع الخلاف الموضوعية العلمية في الفتوى، بحيث يحار المسلم العادي في أيٍّ من الفتاوى المتناقضة يهتدي ويلتزم!

في سياق آخر، أشاع استنساب اجتهاد القرون الوسطى الجهادي ثقافة الكراهية والرفض والانغلاق في التعليم والتربية والإعلام، ليس ضد «ديار الكفار» وإنما أيضاً ضد المذاهب والطوائف والأديان الأخرى في المجتمع الواحد في «ديار الإسلام». في هذا المناخ العصابي تمت دروشة المجتمعات في استسلام تلقيني مطلق لكل مقولات وفتاوى المرجعيات الدينية التقليدية والمتسيسة. وفي هذا المناخ الخانق ظهرت حركات أصولية انتحارية تكفر النظام وتزندق المجتمع، وهي تسبح فيه مستغلة إيمانه العفوي، وسخاء القادرين، وجهله بما تعد له من ذبح وتقتيل وتدمير.

أكون ظالما إذا قلت إن الشرذمة والانقسام محصوران في القطاع الديني والأصولي. فالبعثرة في الرأي والموقف تتجلى أيضا داخل النخب الفكرية والسياسية. هات اثنين من أهل الثقافة أو السياسة يتفقان في الصحافة والشاشة على رأي أو موقف واحد!

نعم، الحوار الحر لا بد منه للوصول إلى اتفاق أو بلورة للمواقف والرؤى، لكن الحوار الإعلامي والسياسي اليوم يزيد من الشرذمة على مستوى النخب، وبات نوعا من صراع الديكة المسلي والمثير على الشاشة وفي الصحافة.

العرب اليوم يمرون بمرحلة استطيع أن أطلق عليها وصف «الوعي السلبي للذات». التحدي الصهيوني المدعوم من الغرب كشف للعرب عجزهم عن مجاراة الغرب في علمه وتقنيته وتنظيمه وتسليحه وفي حريته الفكرية المطلقة. هذا الاكتشاف ولد سلبية دينية وسياسية هائلة.

وتغذى «الوعي السلبي للذات» من الفردية المزاجية المتوارثة منذ الجاهلية في النفس العربية، والمتمثلة حديثاً في انعدام الرغبة العامة في التحصيل العلمي والتأصيل البحثي، وفي لامبالاة النظام العربي وإهماله تنظيم الدارسين في قنوات الاختصاص واستغلالهم في تطوير المجتمعات.

راحت مناهج التربية تنتج من الأئمة الغاضبين والوعاظ العاطلين عن العمل، أكثر مما تنتج من علماء وباحثين. وأصبح الإنفاق على المدارس والمراكز الدينية يفوق الإنفاق بكثير على مراكز البحوث العلمية والتقنية التي تطورت في العالم الأصفر لتنافس مثيلاتها في العالم الأبيض، ولترفد الصناعة والمعلوماتية الإلكترونية بالابتكار ومراكمة علم وخبرة فوق علم وخبرة.

مع الوعي السلبي للذات، ومع الدروشة الاجتماعية، ومع هزيمة الخيار القومي اللاديمقراطي، ومع انفضاح الآيديولوجيا الشمولية، ثم مع انغلاق الخيار الأصولي... تطفو على السطح ظواهر وفقاعات صارخة ضد كل ما هو إيجابي في النفس العربية، وضد كل ما هو موحَّد وجامع في الرأي العام وفي المجتمع.

أحزاب تشيع الكراهية العصبية، وتشجع الانفصال بين القوميات والأقليات والطوائف والأديان المتعايشة في الجسم الاجتماعي الواحد. وأحزاب تقفز فوق التاريخ العربي لتستلهم في «وعيها السلبي للذات» حضارات ماتت واندثرت.

كتاب وباحثون اجتماعيون متأمركون يتسللون إلى الشاشة والصحافة لاستفزاز المشاعر وتحدي الأصالة والتراث والحداثة، في ركاكة لغوية وضحالة ثقافية وفكرية وجهل مطبق بالتاريخ العربي والإسلامي. أصبح توماس فريدمان في سطحيته وعدائه المبطن لكل ما هو عربي وإسلامي، ملهما لكتاب يحتقرون أمتهم لمجرد هزيمتها وضعفها وانقسامها، ولا ينطلقون في نقدهم لها من عاطفة الحنو والغيرة عليها.

لا تربطني عداوة أو خصومة شخصية مع كاتب أو باحث معين من هؤلاء «الفريدمانيين» المتأمركين، ولا أطالب بوقف تسللهم. فالصحافة والشاشة مرآة مفتوحة أمام المشاهد والقارئ الواعي ليميز ويحكم في صمته الأبلغ من التصريح، إنما أشير إلى ظاهرة سلبية أو فقاعة عابرة تطفو على سطح جسد اجتماعي مريض.

مشروع «الحزب الفرعوني» يندرج في إطار هذا «الوعي السلبي للذات». نعم، المصريون من الناحية الآنثروبولوجية ليسوا عربا ساميين، لكن الدماء العربية امتزجت بدمائهم. الأهم من ذلك أن العروبة لغة وثقافة، وليست عصبية. الفرعونية حضارة ماتت تاريخيا وشواهدها الأثرية الضخمة برهان على عذاب واستعباد المصريين القدماء الذين سُخروا لإقامتها تخليدا لملوك فراعنة وآلهة زائلة.

حرر العرب مصر من العبودية الفرعونية والهيمنة الاستعمارية القديمة. تساوى المصريون والعرب في الإسلام فتعربوا. أي شقاء للعرب لو لم تتعرب مصر؟ أية قيمة للثقافة العربية المعاصرة لولا إشعاع مصر الثقافي والفكري والإعلامي؟ الفضل التاريخي في ذلك يعود إلى عبقري العرب الاستراتيجي الأول. فقد اكتملت في نفس عمرو بن العاص رؤية مبكرة لوطن عربي يمتد بَداهةً إلى مصر والمغرب من خلال سماحة الإسلام الأول.

الحزب الفرعوني فقاعة عابرة مع كتاب أمريكا المستعربين. هو وهم استفزاز لكل ما هو أصيل وإيجابي في النفس والثقافة العربية. يكفي أن أذكر أن أحمد لطفي السيد «ملهم الحزب» ترجم أرسطو، ثم انخرط وزيرا في بعض وزارات الأقلية المهادنة للاستعمار في مصر.