المارستانات العربية المتحدة

TT

من لا يوحدهم العقل قد يجمعهم الجنون. وبإمكاننا أن نتفاءل خيراً، بعد أن أعلمتنا منظمة الصحة العالمية بوجود عشرة ملايين مريض نفسي في مصر وحدها، لنطلق لمخيلتها العنان ونتصور، قياساً على ما سبق، قوافل المرضى النفسيين على مد النظر من المحيط إلى المحيط. ورغم ان الإحصاءات المحلية المصرية تقلص العدد إلى 2.5 مليون مريض، إلا ان أي إنسي، في هذه المنطقة المنكوبة بذهانها ـ بقي في رأسه ذرة عقل ـ لا يملك إلا ان يفترض قصوراً في رقم المنظمة الدولية التي فاتها، أن تحصي، على الأرجح، مرضى جنون العظمة المتسلطين على رقاب الناس، وأصحاب وسواس المؤامرة القهري، وضحايا إدمان الاختلاس، وإخوانهم في فصام الحداثة على أنواعهم، واللائحة تطول.. ولا بد أن أي حاسوب ستنفجر شرايينه قبل أن يتمكن من إحصاء العقول البشرية التي فتك باتزانها طغيان صدّام، أو نال من سويتها القصف الأميركي التكنولوجي، السوبر فتّاك، خلال الحربين الملعونتين. وليست مبالغة ان الحرب اللبنانية المشؤومة أخلت بأدمغة نصف اللبنانيين لتقضي الانهيارات الاقتصادية والسياسية على النصف المتبقي. ولا داعي لأن نذكر بهول ما شاهده الجزائريون وما عاناه السودانيون والكويتيون، وما قضى على الجهاز العصبي الجماعي الفلسطيني بالضربات المتوالية. والعربي المحظوظ هو الذي لم يحضر أعراس سفك الدماء شخصياً، ومع ذلك شده الفضول والألم لأن يتابعها بالبث المباشر، وناله فوقها، نصيبه المحتوم من القمع والترهيب والاضطهاد المهين، النابع من صميم تقليديات بلده الحميم، ليجنّ من بعدها جنونه، ويطلق عجيب نظرياته في العلاقات الدولية والسياسات المرجوة. وبما أن الجنون، يا صديقي، فنون، فإن أعراضه صارت تتراوح بين النحيب على الماضي التليد، وفقدان الثقة بالنفس، وإنشاد قصائد المديح بالمستعمر الجديد (فرويد العرب)، ورهاب المستقبل القريب والبعيد. والمدلل من عانى علة أو اثنتين ولم تتلبسه كامل الأعراض، التي لا مجال هنا لذكرها كلها، وان كانت نتائجها تمتد من التقاعس والاستسلام الكليين المريرين وصولاً إلى النشاط العنفي الشرس الذي يخلط، لحظة اشتداد نوبات الهلوسة، بين العدو والصديق.

والشيق في الحالة المصرية، وهي لا تعدو كونها عينة من جسد الأمة الكليل، ان المأزومين يتداوون بالسحر والشعوذة والأحجبة، وقبل أن يغضب من كلامنا المصريون، ويظنون بنا الظنون، نلفت إلى أننا نعتمد هنا، على ما نشره المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، محذراً من تنامي عدد المشعوذين وزبائنهم المرتادين، بحيث ان المصريين ينفقون عشرة مليارات جنيه سنوياً لمعالجة أرواحهم المعذبة بالخرافة وبمساعدة الجن والعفاريت، وان هناك حوالي ثلاثمائة ألف دجّال على الأقل تكفلوا حل العقد وشفاء المقهورين، بقراءة الطالع وفك السحر وتحضير الأرواح. وذنب المصريين الوحيد، اننا وقعنا على نتائج دراسات تشخص معضلتهم، وتكشف بعضا من معايبهم، بينما يرتع غيرهم في نعيم جهلهم بمأساوية واقعهم الأليم. وفي كل الحالات، ورغم فداحة البلاء، فإن الأطباء النفسيين لا يزالون يكشّون الذباب، لأن دخول عياداتهم فضيحة تلحق بصاحبها إلى يوم الدين. وتصاب بالدهشة حين ترى كيف أن الأميركيين يتزوجون ويطلقون ويربون أولادهم، رغم الراحة والرفاه على أيدي الاختصاصيين النفسيين رفقاً بأرواحهم من الصدمات والكدمات، فيما المريض بيننا يتقبل شتى التهم كتوصيف لسلوكه الغريب، ويرفض حفاظاً على سمعته استشارة طبيب النفوس وانحرافات السلوك. وبينما يطلب المحللون النفسيون الفرنسيون الخلاص من زبائنهم المترفين الذين يدقون أبوابهم كلما هاجمتهم لفحة ضيق، ويقولون انهم باتوا يحتفون بالمرضى الفعليين الذين ما عادوا يعثرون عليهم، لكثرة الغث وقلة السمين وغلبة مرض النقيق، فإن الذهنيات العربية المشلولة بعقدة الإباء والعنجهية تسارع بنعت القلق بالجنون والاضطراب بالخبل، وكل طبيب للنفوس بالاهتزاز، حتى صار يستدعي بسبب اختصاصه المريب الاسهتزاء والتنكيت. وان يكون عدد الأطفال دون الخامسة عشرة في المغرب العربي وحده قد بلغ الأربعين مليوناً، وهم يكبرون في غالبيتهم، من دون أمل كبير أو أفق حميم، فهذا يستحق المسارعة لفتح العيادات وتأهيل المنقذين من براثن الكآبة والسوداوية والغرق في ظلمات البحث عن أقبية وسراديب سرية للتنفيس. ورغم ان علم النفس ليس المخلّص الأساس من الإحساس العميق بالاضطهاد، إلا أن «بحصة تسند خابية»، وان نعين من أرهقتهم العنوسة، أو ظلمهم الطلاق، أو خيبهم الزواج، أفضل من تركهم في زواياهم المهجورة يتألمون، ومعهم العاطلون والمدمنون والمتذمرون المتبرمون. فاليوم ما عادت تكفي نصائح الجدات وأحجبة المشايخ لجلب الطمأنينة والأمان بعد أن انتهكت الأرض والسماء وفرغت الجيوب وتفشى جنوح الاستهلاك وصعب بلوغ المنال. وإفادة من خريجينا العالمين في خبايا النفس تزيح عنهم مخافة الفاقة، وتجعلهم جزءاً فاعلاً وضرورياً من بناء يبتغي لنفسه الترميم ونفض هالات الغبار التي تحجب الرؤية، وتسد مسارب الضوء. وقبل أن تجرفك الموجة بالكامل وتصبح عضواً منخرطاً بكليتك في المارستانات العربية المتحدة، كن عاقلاً واذهب إلى الطبيب النفسي، لأن الصدر إذا نفث برأ، أو الجأ إلى أقرب مكتبة لتتزود بالمفيد من مؤلفات تقويم السلوك، فالحاجة تفتق، لا بد، الحيلة، ومن جهل علماً عاداه. والبحث عن الحقيقة، واستعادة إنسانية مهدورة، خير من الصراخ والعويل، سيما وأن «الحكيم من خزن لسانه ووزن كلامه وخاف الندامة».

[email protected]