مجتمع المفك..؟!

TT

من الظواهر اللافتة للنظر في العالم العربي، موضوع تجميع الأجهزة الكهربية والسيارات، أي أن ترسل شركة سوني للتلفزيونات، أو شركة سامسونج للكومبيوتر، أو حتى شركة فيات للسيارات، مثلا، أجهزتها مفككة، ثم تجمع في مصر، على سبيل المثال، وهنا استخدم مصر لأنني مصري، ويقوم جماعتنا في مصر بتجهيز مفكاتهم (جمع مفك) ليضعوا هذه الأجزاء بعضها جنب بعض، وتجميعها من الحالة «المفكفكة» إلى الحالة «المركبة»، لتخرج للسوق مكتوبا عليها صنع في مصر.

والحقيقة أن كل أدوات المصري في هذا الموضوع، هو أنه حامل المفك والقادر على استخدامه، طبعاً لا تسألني أين صنع المفك، وخلّي الطابق مستور!.

المشكلة لا تكمن في موضوع الأجهزة الكهربية أو السيارات أو الصناعات المتطورة. الهمّ الحقيقي، هو استشراء ظاهرة المفك لتنسحب على المجتمع بأكمله، وفي بعض الأحيان يكون المفك نفسه ليس مفكنا، ولكن لا نتورع في أن نقول إننا صنعنا ذلك. كنت في السوق أحاول شراء بعض القمصان، وأعجبني قميص، وعندما نظرت إلى موطن الصناعة وجدته يحمل عبارة «صنع في الإمارات»، وقلت ربما أن معلوماتي محدودة عن الإمارات، وأنه يجب تقصي الأمر، في ما يخص زراعة القطن في الإمارات أو حلجه أو حتى استيراده لصناعة الملابس، ولم أجد أياً من ذلك، تصورت أن الإماراتيين هم أيضاً من مدرسة المفك، لكن الذي حدث كان ظاهرة جديدة، وهي ما بعد المفك، أو ما يسميه أولاد البلد بالتلوين، والتلوين عبارة شائعة الاستخدام في مصر، عندما تحاول أن تغش أحداً في موضوع، يقول لك «ما تلوِّنش عليّا»، بمعنى أن تطلي الحقيقة أو حتى الكذب بلون جديد، يغطي ما تحتها. وظاهرة التلوين، هي ظاهرة «ما بعد المفكية»، ظاهرة ما ورائية، أي ما وراء المفك. أدركت أنه في حالة الإمارات، ان بعض الدول المنتجة للمنسوجات التي تغرق السوق الأمريكي بعد أن تستخدم كل نصيبها في التصدير إلى أمريكا، تبحث عن استغلال كوتة (أو نصيب) لدولة غير قادرة على تغطية نصيبها من الصادرات إلى أمريكا، فترسل الصين أو تايوان منتجاتها إلى الإمارات، لتوضع عليها (ليبل) أو علامة «صنع في الإمارات»، ومن هناك تسافر البضاعة إلى أمريكا على أنها بضاعة إماراتية!.

طبعاً الأمريكيون يعرفون أن هذا صنع في تايوان أو في الصين، كما يعرفون أن موضوع «صنع في الإمارات» هذا «تلوين»، ومع ذلك يتركون الأمر يمر.

صلب مقالي، هو أن ظاهرة مجتمع المفك تحتاج إلى نقاش طويل، ذلك لأن القضية لا تتوقف عند توريد بضاعة «ملونة» للخارج، كما في حالة «صنع في الإمارات»، وإنما بتسويقها من الداخل أيضاً على أنها «صنع في مصر»، وهذا الخطر هو ما اسمّيه بخداع الذات وتضخمها.

في واحدة من الجامعات الإقليمية في مصر، قرر رئيس الجامعة معاقبة استاذ، وخد بالك من لقب استاذ هذه، أي ليس معيداً أو مدرساً مساعداً أو مدرساً أو استاذاً مساعداً أو مشاركاً، هذا استاذ كامل الرسم، عوقب لأنه نزع غلافاً لكتاب أجنبي ووضع عليه غلافاً جديداً يعلن أن الكتاب من تأليفه هو، وقام بتدريسه للطلاب، على أنه كتابه هو. بالطبع أنا فخور كمصري أن صاحبنا استطاع تدريس الكتاب لطلابه لأنني لم أكن أتوقع أنه سيستطيع ذلك في جو الاضمحلال السائد. هذا المثل الخاص، بأن تنزع غلاف كتاب وتضع غلافاً آخر عليه يحمل اسمك، لا يقع ضمن مدرسة المفك، هذا مثل يقع ضمن مدرسة التلوين، على غرار أن تضرب الطائرة الجامبو 727 (بويه) أو تلونها ثم تكتب عليها من الخارج الخطوط الجوية الـ ....، وسمي هنا أي دولة.

موضوع المفك الآن أصبح واضحاً للعيان، في مقالات كثير من الكتّاب، العلمية منها أو السياسية، فكلما قرأت مقال رأي بالعربية من العيار الثقيل بدا وكأنني أعرف ملامح النقاش «أنا قرأته قبل ذلك»، أقول لنفسي، ثم اكتشف أنني قرأت جزءاً من هذا التحليل في الليموند الفرنسية، أو في مجلة نيشن الأسبوعية في نيويورك، أو في مجلة النيويورك رفيو أوف بوكس.. وهكذا، أي أن المقال تجميع، ومن مدرسة المفك، فقرتان من الليموند، وأربع من النيوستيتسمان (New Statsman)، وفقرتان من البوسطن جلوب، ثم مقدمة اسلاموية، وخاتمة قومجية، واضرب، «صنع في مصر».

طبعاً هذه الظاهرة ليست بالضرورة ظاهرة مفك خالصة، فهي مفك في مسألة تجميع الفقرات، أما المقدمة الاسلاموية والخاتمة القومجية، فهي في إطار التلوين.

يحمد لصحيفة «الشرق الأوسط»، أنها عندما تأخذ عن النيويورك تايمز أو عن الواشنطن بوست، أنها تقول ذلك بوضوح وصراحة، أي أن البضاعة التي أمامكم مستوردة من منبعها ونحن نرى قيمة في استيرادها وفائدة، ثم تنظر في كثير من الصحف المنافسة فترى القضية نفسها بتجميع مختلف، الفقرة الثالثة قبل الثانية أو الخامسة قبل الرابعة، فتعرف أن المفك اشتغل، ثم يكتب من فوقها خاص بالصحيفة الفلانية. طبعاً بعد أن يضرب الموضوع بوية أو (دوكو)، كما يقول المصريون، عن طريق المحرر الداخلي.

كنوع من التمرين لاستكشاف عالم المفك أو التلوين، أتمنى من قرائي، النظر إلى أنفسهم أو من حولهم بداية من الحذاء حتى الجاكيت، وحتى ربطة العنق، أو شماغ دانهيل، ليروا بأنفسهم ماذا نصنع نحن، غير كوننا مجرد حملة لمفك التجميع أو بخاخة (الدوكو)!.

تأكد أيضاً أنه عندما تواجه أحدهم وتتهمه بأنه من مدرسة المفك أو التلوين، فلن يجيب على اتهامك إلا باتهام آخر على غرار أن مخك مغسول وأن مقولاتك هذه تخدم الأعداء، وأنك من ضمن الطابور الخامس، وإذا ما نظرت إليه في دهشة مما يقول، سيرفع حواجبه، ويحمر وجهه، ويعلو صوته وهو رافع المفك طبعاً، قائلا لك: «ثم يا أخي هذا مفك اسلامي»، فتضرب أخماساً في أسداس، محاولاً أن تفهم كيف أصبح المفك إسلامياً، لكن ليس هذا هو المهم، لأنك وحين تناقش حاملي المفك حول احتلال بلدهم أو العدوان عليه، يقولون لك إن المشكلة ليست في الاحتلال أو العدوان، إنما في ما يكتبه أمثال فندي بصحيفة «الشرق الأوسط».

في عالم مثل هذا، عالم خداع الذات وتضخيمها، مدرسة المفك تكسب، لكن مؤقتاً، لأن الشعب إذا أراد الخداع فتسود ثقافة المفك، لكن، وفي النهاية، لا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للمفك أن ينكسر مع كامل الاعتذار للشاعر أبي القاسم الشابي.

.. رد على رد

رداً على التكذيب، فموضوع الاخوان الذي كتبت عنه في المرة السابقة، كان موضوعاً مستورداً من المنبع، ولم أجمعه تجميعاً، وخارج مدرسة المفك، ونفي الاستاذ الهضيبي لا يعني ان الحوار لم يبدأ، وأضع هنا أمام الأستاذ الهضيبي واقعة واحدة تتعلق بالتقاء أحد الكتّاب الاخوانيين بنائب وكالة المخابرات المركزية السابق، قبل ثلاثة أشهر، علماً أن الكاتب نفسه كان في لقاءات شبيهة في دولة قطر مع أطراف أقل أهمية!.

واكتفي بهذا القدر اليسير الآن.