مش بطال

TT

اعتدنا في هذه الايام عن الزمن الرديء على التمادي في جلد أنفسنا. اصبحنا نحتقر عروبتنا وتاريخنا. يؤسفني انني كنت في مقدمة من يفعل ذلك حتى بدوت للكثيرين بأنني شخص اتنكر لقومي واعادي العرب واسخر منهم. وهو طبعا انطباع خاطئ، وهو ايضا جزء من شخصيتي العراقية المفطورة على عدم الرضا والثورة على ما هو كائن والطموح الى ما يمكن ان يكون. هذه شخصية مصيرها العذاب، وكذا هو الحال مع الشعب العراقي الذي تطلع منذ فجر التاريخ الى المستحيلات بما فيها الانتصار على الموت.

اننا نجلد الذات عندما نقارن انفسنا بأوربا الناهضة، وننسى اننا لسنا جزءاً من أوربا وانما نحن جزء من افروآسيا، اذا كنا نشكو من الفساد فلننظر الى ما يجري في بنغلاديش التي نالت الموقع الاول في انتشار الفساد، اذا كنا نشكو من التزوير والسرقات التي جعلت بعضنا يطمحون بفضلها للتربع على حكم العراق، فلننظر لما يقوم به النايجيريون. واذا كانت البلهارزيا شائعة في كثير من بلادنا فلنتذكر اصابات الايدز في أواسط افريقيا وجنوبها. لم تتعرض أي دولة عربية لما تعرضت له افريقيا والهند والصين من مجاعات. المساعدات التي تتدفق على العراق الآن ـ كما ذكر أحد المعلقين الانجليز ـ ينفقها العراقيون لشراء دشات ليتفرجوا على الفضائيات، في حين يستجدي الافريقيون المساعدات من الغرب ليقيموا أودهم وينقذوا أطفالهم من الموت جوعا. لم يشهد عالمنا العربي شيئا مثيلا للمجازر التي جرت بين الهندوس والمسلمين عند استقلال الهند أو بين القبائل الافريقية في اواسط افريقيا مؤخرا. وحتى ما فعله صدام حسين بالاكراد لا يقارن بما فعله الاتراك بالارمن خلال الحرب العالمية العظمى.

لنا حكاية فولكلورية تقول ان مسافرا على حصان صادف رجلا راحلا توسل به ان يحمله معه على حصانه من التعب.

فنادى عليه صاحبه «ولك اسمع. انت هربت بالحصان. ولكنك ح تقطع الرحمة من قلوب الناس». ما ان سمع السارق هذه الكلمات حتى توقف وعاد بالحصان الى صاحبه.

هذه الكلمة العربية الاصيلة «الرحمة» التي تتردد في القرآن الكريم في نحو 350 آية واصبحت من اسماء الله الحسنى «الرحمن الرحيم» ويتلوها ملايين المسلمين كلما هموا بأي عمل «بسم الله الرحمن الرحيم»، لا مرادف لها في اللغات الاوروبية. اقرب شيء لها في الفرنسية والانجليزية «مرسي»، لكن مرسي لا تحمل قط نفس الشحنات العاطفية والابعاد الروحية التي تحملها كلمة «الرحمة»، اعتقد البعض ان تمسكنا بها اضعف ارادتنا وعزيمتنا وساهم بانهيار الامبراطورية العربية. فحالما يعزم الاوربي على ترك زوجته مثلا يمضي في قراره ولا يثنيه عنه بكاؤها وتوسلها. ولكن كم وكم من رجالنا تراجعوا عن مثل هذا القرار بمجرد مشاهدة دموع زوجاتهم واطفالهم. مضى آخرون لما هو أبعد من ذلك فقالوا إن تعامل العرب الفاتحين بالعطف والرحمة مع الشعوب المفتوحة كانت غلطة كبيرة فتحت المجال لهذه الشعوب في ان تنقض عليهم فيما بعد. إن من أكبر الاخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العرب أمة سيف وضرب وحرب. عمدت في كتابي «نحو اللاعنف» الى تبديد هذا الوهم. لم يعمد العرب طوال تاريخهم الى تطوير اي فنون أو تقنية عسكرية. لقد تعلم الاوربيون الكثير منا في ميادين العلوم والفكر والفن والحضارة. ولكنهم لم يتعلموا اي شيء عسكري منا. ما تعلموه منا كان تخمير الكروم وتعطير الكحول والتفاني في العشق. شهداء الحب لا شهداء الحرب. لقد فتح العرب العالم في نصف قرن لا لقوتهم وانما لانعدام قوة توقفهم. وما استتب الامر لهم حتى تركوا الضرب والحرب للعجم وانصرفوا للاستمتاع بالحياة، بالحب والغزل والشعر والادب. لا توجد في كل تاريخنا معارك ملحمية من نوع طروادة وقرطاجة وستالينغراد. الحرب والضرب ليس ديدن العرب. علينا ان نعيد كتابة تاريخنا وندرك كل ذلك ونعمل في اطاره ونعتز بأننا أمة لا تحب غير العيش بسلام وراحة ومتعة.

كل ما سواه تشويه لشخصيتنا.

www.kishtainiat.com