ومن يحاسب أمريكا: أدبيا وأخلاقيا على الأقل؟

TT

ماكس سيكدمور، ومارشال كارت روانك، كانا صادقين ودقيقين حينما سجلا في كتابهما المرجعي (كيف تحكم أمريكا): هذه الفقرات «ان اكثر صور الضغوط شيوعا في الساحة السياسية هو (اللوبي) والتأثير الذي يمارسه على المجالس التشريعية. فجماعات الضغط تسعى لتجنيد الجمهور للاتصال بالمشرعين، وكثيرا ما تكون لها هيئة معاونين يعملون لمصالحهم كل الوقت او بعضه في المجالس التشريعية. وكل من هاتين الوسيلتين تحتاج الى اعتمادات ضخمة والى عضوية كبيرة الحجم او مكانة من السمو ما يجعلها مهيبة مؤثرة.. ومن مهام المشتغل باللوبي: ان ينمي اتصالات لضمان وصوله الى المشرعين، ويسمى هذا الاسلوب بـ (أسلوب الطعام والشراب) فهو مستعد دائما ان يأخذ مشرعا للغداء وللحصول على تذاكر في اماكن فخمة لقضاء الوقت، والقيام برحلة الى موطن المشروع في طائرة خاصة او اهداء عطلة نهاية اسبوع ممتعة في مكان منعزل تمتلكه المنظمة.

وقد يشمل هذا الاكرام اعضاء مكاتب اللجنة او المشروع، لأن موافقة هؤلاء قد تكون حاسمة لانجاح الاقتراح وجعل المشرعين يولون مزيدا من الاهتمام والاحترام للاوضاع التي يؤيدها اصدقاؤها من اللوبي وغيره.. يضاف الى ذلك: ان المشرعين كأفراد ليس من المرجح ان تتوفر لهم الاموال وهيئة المعاونين التي يمكن ان تباري ما لدى المصالح الكبيرة من هذه الموارد.. وقد جرت محاولات لاصلاح هذه الاوضاع، ومن ذلك: اصلاح قانون اللوبي الفدرالي (العديم الاسنان) والصادر عام 1946، وقد نشأت هذه الجهود من الاعتراف بأن هذا التشريع قد فشل تماما في السيطرة على ما للثروة والمكانة من نفوذ مكثف ـ في التشريع ـ لا يكاد يفترق عن الفساد الصريح».

نعم كان مؤلفا كتاب: «كيف تحكم امريكا»، صريحين وصادقين ودقيقين وهما يسجلان الفقرات الانفة.. فالواقع يؤيد ما ذهبا اليه، وجاهرا به.

لقد كانا وكأنهما يتحدثان ـ مثلا ـ عن (شيوخ) اميركيين انهمكوا في صياغة قانونين لا ينقصهما السقوط الاخلاقي (قانون محاسبة سوريا).. ثم (قانون محاسبة السعودية)!!

بل كأنما كانا يحكيان ـ برؤية قَبْلية ـ مأساة السناتور (ارلن سبكتر) الذي قاد صفقة (قانون محاسبة السعودية).. فهذا الرجل مثال تعس وصارخ للاستجابة البائسة للضغوط الصهيونية على نفر من المشرعين الامريكيين، وهي ضغوط تضحي بالمصالح الامريكية الحقيقية من اجل خدمة الاجندة الصهيونية والاهداف الاسرائيلية.

ولكي لا نظلم الرجل، ولا نفتات عليه: نقدم القرائن والادلة التالية:

أولا: هو يميني متطرف يؤمن «!!» بأن «قيام اسرائيل ضرورة الهية وجودية بين يدي عودة المسيح». فأحد دوافعه الى صياغة القانون البهت النشاز هو: دافع ديني لاهوتي صهيوني اسرائيلي، ولا علاقة لذلك بطبيعة الدولة الامريكية ولا بمقاصدها المصلحية. فالتعديل الاول من الدستور الامريكي ينص على انه: «لن يصدر الكونجرس اي قانون خاص باقامة دين من الاديان».

ثانيا: ان جوهر قانون سبكتر هذا هو: ان السعودية لا تتعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب!!!!.

وهذه كذبة خالصة ضخمة، بالمعنى الاخلاقي والقانوني للكذب.. وبالمعنى اللغوي، فمن التعريفات اللغوية للكذب: انه (القول المخالف لمقتضى الحال)، اي للواقع.

ولا ريب في ان كلام هذا السيناتور وقانونه مخالفان لواقع الحال بشهادات امريكية رسمية منها ما قاله مسؤول في مجلس الامن القومي الامريكي وهو (شون مكورمك) اذ قال: «ان السعودية حليف قوي ساعدت كثيرا في الحرب على الارهاب، وان مجلس الأمن والبيت الابيض لا يريان ان السعودية تساعد الارهاب، وان التعاون بين البلدين يزداد يوما بعد يوم».. ومن هذه الشهادات الامريكية الرسمية، ما قاله مسؤول في ادارة الشرق الادنى في وزارة الخارجية الامريكية وهو (غريغ سوليفان) حيث قال: «ان الادارة الامريكية راضية تماما عن مقدار تعاون السعودية في الحرب على الارهاب».

هذه هي معلومات الجهات الامريكية الرسمية المختصة. فمن اين استقى سبكتر معلوماته او اكاذيبه؟ لم يبق الا مصادر ثلاثة: الرؤية المنامية.. او الموساد.. او الكذب المحض.

ثالثا: ان هذا الرجل له دوافع او مطامع ومطامح انتخابية، فهو يرتجف خوفا من فقدان مقعده الانتخابي في بنسلفانيا، اذ يواجه تحديات مشحونة بالتوتر والقلق والتطير ولذا فهو في حاجة شديدة الى (منقذ).. ومن خطط اللوبي الصهيوني: انه يرصد هذه المآزق التي يعانيها نفر من المشرعين فيلوح برايات الاسعاف والانقاذ، لكن الاسعاف ليس مجانيا، وانما يرتبط او قائم على صفقة.. والمرجح ان صفقة الاسعاف ابرمت على النحو الآتي: نقدم لك العون المطلوب بشرط ان تتقدم الى الكونجرس بهذا القانون الذي اعددنا مسودته: قانون (محاسبة السعودية).. وها هنا يستطيع القارئ ان يستعيد ما قاله مؤلفا كتاب «كيف تحكم امريكا»: اكثر صور الضغوط شيوعا في الساحة السياسية هو «اللوبي» والتأثير الذي يمارسه على المجالس التشريعية».

وإيش حكاية المحاسبة هذه؟!

لو قالوا: ننتقد هذه الدولة او تلك من دول العالم: لتُقُبّل هذا منهم بشرطين اثنين: الشرط الأول: ان يكون النقد عقلانيا وعادلا وأمينا.. والشرط الاول ان يكون للدولة المنتقدة الحق ذاته، بمعنى ان يكون لها الحق في ان تنتقد الولايات المتحدة، ولكن بعقلانية وعدالة وامانة ايضا.

اما حكاية المحاسبة هذه، ففيها من الاستعلاء والتكبر والتجبر واحتكار الصواب والعنصرية ما يسيء الى الدول والشعوب. وما يزيد سمعة امريكا تدهورا، وصورتها تشوها، ولا نحسب ان عاقلا امريكيا يريد هذا لبلاده، ولا سيما في هذه الظروف التي تقتضي وجود استراتيجية امريكية جديدة وشجاعة قوامها ومضمونها وهدفها (تطبيع علاقة الولايات المتحدة بدول العالم وشعوبه) على اسس امتن وارقى من التفاهم والاحترام والتعاون الوثيق على القضايا المشتركة.

ان باب المحاسبة لو فتح ـ بهذه الطريقة المزاجية الكيدية ـ لما نجحت من فتحه: الولايات المتحدة نفسها، على الاقل من الناحية الادبية والمعنوية والمدنية العامة. فليس الذي يملك القوة هو الذي يحاسب ـ في هذا المجال ـ وانما الذي يملك الحق والكرامة والشرف الانساني هو الذي يحاسب.. وهذه قيم تحملها ـ بهذه النسبة او تلك ـ شعوب الارض كافة التي خاطبها خالقها بقوله: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».

وقد يقال: وهل هناك ما تحاسب عليه امريكا؟

هناك الكثير.. الكثير الذي يتطلب احصاؤه مجلدا او موسوعة والذي لا يتسع هذا المجال الا لامثال او صور منه:

1 ـ ضغطت الولايات المتحدة على سبعين دولة في عالمنا هذا، ابتغاء التوقيع على اتفاقية ثنائية تقضي باعفاء الامريكيين من المثول امام المحاكم الجنائية الدولية «رفض اقرب واعرق حلفاء امريكا، وهم الاوروبيون: التوقيع على هذا الامتياز او الاستثناء الكوني».. ووجه المؤاخذة في هذا السلوك الامريكي: النزوع العنصري ـ بالمقياس الانساني ـ وهو نزوع يقول ـ بلسان الحال ـ (ان امريكا فوق الجميع). وهو نزوع مهدر للقانون الذي يحكم البشر، بمعيار القانون الدولي الذي ينص على المساواة القانونية والقضائية بين البشر، بل هو نزوع او سلوك مناقض لنص واضح في وثيقة الاستقلال الامريكية التي تقول: «نحن نؤمن بان جميع البشر قد خلقوا متساوين، وان خالقهم حباهم بحقوق معينة غير قابلة للاسقاط او التنازل عنها».

2 ـ رفضت الولايات المتحدة التوقيع على الاتفاقية الدولية التي تحظر انتاج وتصدير الالغام المضادة للافراد.. ووجه المؤاخذة: ان هذا الرفض يعني: عدم الاكتراث بحياة البشر وسلامتهم.. وليس هناك معنى لحقوق الانسان الاخرى، اذا استهين بالحق الاول الاساسي وهو: حق الحياة.

3 ـ اقر مسؤولون امريكيون بان زراعة نبات الخشخاش الذي يستخدم في صناعة الافيون والهيروين قد تضاعفت في افغانستان 36 مرة خلال عام واحد 2002 ـ 2003، ووجه المؤاخذة: ان هذا التوسع المذهل في صناعة المخدرات قد جرى في ظل الوجود الامريكي: الاستخباراتي والعسكري والاداري في افغانستان.

4 ـ منذ قارعة 11 سبتمبر 2001، وفي ظل التدابير الهائلة لمكافحة الارهاب: زادت العمليات الارهابية: عددا وحدة وضراما.. ومن اسباب زيادة هذا الوباء وتفشيه: ان الخطط والوسائل والاساليب الامريكية لم تكن ناجحة ولا حكيمة في مجملها، بل التاثت بأهداف وأجندات اخرى ادت الى انحراف كبير بالحرب على الارهاب.. وهذه مؤاخذة لا تنكر ولا تستر.

5 ـ ان من انجح وسائل او تدابير مكافحة الارهاب (خفض درجات التوتر الديني لان من شأن رفع درجات هذا التوتر: زيادة غليان العقائد والعواطف وهي زيادة تمثل وقودا مواتيا للعنف والارهاب.. بيد ان ثمة اصواتا امريكية ترفع التوتر الديني ولا تخفضه، لا نقول اصوات جيري فالويل وامثاله. فقد قال: ان هؤلاء (غير رسميين) وانما نعني الاصوات الرسمية الممثلة في وزراء وجنرالات طعنوا في عقائد الاسلام، وازدروا المسلمين.

فهل ترضى امريكا: ان تسن قوانين لمحاسبتها، بناء على هذه المؤاخذات والاخطاء؟

واذا اصرت امريكا او طرف فيها على (محاسبة) الآخرين: فهل تحاسب البشرية كلها التي تنتقد هذا المنزع او ذاك من المنازع الاميركية؟ مثلا: احتجت الشعوب الاوروبية على الحرب على العراق، وقال %59 من الاوروبيين: ان الولايات المتحدة هي المهدد رقم 2 للسلام العالمي، بعد اسرائيل، واحتج الشعب البريطاني او قطاعات كبيرة منه على زيارة الرئيس الامريكي جورج بوش لبريطانيا.. فهل ستسن قوانين لمحاسبة هؤلاء. ان القوانين الكيدية هذه محصورة في جنس معين، مقصورة على دين بذاته؟

نريد ان نثق بكم، واذا كنتم غير زاهدين في هذه الثقة فأعينونا عليها بما أهل لها من الاقوال والاعمال والمواقف.. وليس مما يوطد الثقة ويعززها: جعل العلاقة مع الأمم والدول قربانا في مذبح الانتخابات.