وثيقة جنيف كمخرج من العدمية السياسية

TT

بما ان المشروع الحضاري العربي لن ينهض على قدميه الا بعد ان تحل قضية فلسطين، فإني مضطر للعودة الى هذا الموضوع مرارا وتكرارا. صحيح ان قضية فلسطين تخص الفلسطينيين بالدرجة الاولى لانهم يحترقون بحرّ نارها، ولكنها تخص بعدهم مباشرة عرب الدول المجاورة الذين سيظل تاريخهم معطلا ما دامت قضية العرب الاولى لم تجد لها حلا.

تطلب حرية الصحافة او تعدديتها فيقول لك الحكَّام: حتى تنتهي مشكلة فلسطين. تطلب حرية الرأي والاجتماع وتشكيل الاحزاب؟ يقولون لك: العدو على الابواب. أجلّ هذا الموضوع الآن. تطلب حلّ بعض المشاكل الداخلية المعلقة منذ قرون؟ فتسمع نفس الجواب. ولكن هذا الوضع لا يمكن ان يستمر الى الابد. فعاجلا او آجلا سوف يطالب الناس بحقوقهم، ولن يقبلوا بهذا الجواب المختصر الذي اخذ يفقد مصداقيته شيئا فشيئا. الايديولوجيا العربية الآن على المحك: اما ان تقبل بتعديل ذاتها وتغيير مفاهيمها ومصطلحاتها، واما ان تصبح خارج قوس. الفكر عندما لا يتغير بتغير الواقع يصبح لاغيا او غير فاعل على الاطلاق.

والواقع تغير سواء على المستوى العربي او الاقليمي او الدولي. ومن بين هذه المتغيرات ظهور جيل جديد من القادة السياسيين في كلتا الجهتين الفلسطينية والاسرائيلية. وهو جيل لا يستخدم تلك اللغة الجوفاء التي مللناها من كثرة ما سمعناها. ولهذا السبب مبادرة جنيف احدثت كل تلك الضجة على المستوى العالمي. ولكن هل ستنجح في تغيير المعطيات او فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود؟ هذا هو السؤال.

لقد عابوا على وثيقة جنيف اهمالها لعودة اللاجئين. ولكن لا يستطيع احد ان يقنعني بأن ياسر عبد ربه او قدورة فارس او سواهما من القادة الفلسطينيين «الجدد» في عقليتهم يمكن ان يتساهلوا او يفرطوا في حقوق شعبهم. فهم ليسوا اقل وطنية من غيرهم. ولكن السياسة هي فن الممكن لا المستحيل كما علمنا ارسطو منذ الفين وخمسمائة سنة. ولا ينبغي ان نزاود على بعضنا البعض كما فعلنا طيلة خمسين سنة. ينبغي ان نكون صريحين، وواضحين، مع انفسنا ومع الآخرين.

ان حق العودة على الرغم من انه حق مقدس غير قابل للتطبيق العملي الا في حالات محدودة. وبالتالي فلم يفرط قدورة فارس او ياسر عبد ربه بشيء، وانما حاولا ان يأخذا كل ما يمكن اخذه من خلال مفاوضات مضنية وشرسة. ونحن الذين نعيش في الخارج يسهل علينا ان ننتقد اولئك الذين يقفون في الجبهة الامامية او على خط النار الاول في الداخل. من السهل ان نثرثر ونحن جالسون في مكاتبنا من باريس، او لندن، او حتى بيروت ودمشق والقاهرة.. ولكن اذهب الى هناك الى ساحة الصراع الداخلي واصمد عشرة ايام فقط!.

لا احد يستطيع ان يقول الحقيقة فيما يخص قضية فلسطين لأنها اصبحت مقدسة، بل ولأنها مقدسة من اساسها. ولكن التضحيات الجسام التي بذلت في سبيلها على مدار خمسة عقود اصبحت تتيح لنا ان نتحدث عنها بواقعية وهدوء. اصبح من حقنا ان نناقشها بعد ان ضحينا في سبيلها بخمسة اجيال على الاقل، بل وضحينا بعشرة اجيال لأن الصراع ابتدأ منذ اكثر من قرن.

لقد آن أوان العقلانية السياسية والمسؤولية السياسية. وهي تقول لنا ما يلي: حاولوا ان تضعوا حدا لهذا الصراع الذي سيستنفد كل امكانياتكم وطاقاتكم بشرط واحد فقط: هو ان تقوم الدولة الفلسطينية الى جوار الدولة العبرية. وبعدئذ كرسوا كل هذه الطاقات التي كانت تهدر في سبيل الحرب والدمار لانجاز مشروع التنمية والعمران. ان مشكلة اسرائيل سوف تحل من تلقاء ذاتها اذا ما نهض المشروع الحضاري العربي يوما ما من المحيط الى الخليج. وهو المشروع الوحيد العزيز على قلبي، والذي انا مستعد للتضحية في سبيله بالغالي والرخيص. وبالتالي فقد آن الاوان لتغيير دفة الصراع او حتى طبيعته. ولهذا السبب فإني اجد نفسي مدعوا لتأييد وثيقة جنيف والتوجه العقلاني المسؤول للقيادات الفلسطينية الشابة او الجديدة من حيث منهجها وتفكيرها، ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن القيادات الداعية في الجهة الاسرائيلية: اقصد القيادات التي ترفض خط شارون اليميني المتطرف وتتعطش للاندماج في المحيط العربي.

لقد آن الاوان لكي يغير التاريخ دفته او وجهته، لم تصب اي منطقة في العالم بمثل هذه المحنة التي اصيبت بها منطقتنا. وبالتالي فهناك مسؤولية ملقاة على العالم الخارجي، وبالاخص العالم الاوروبي ـ الاميركي. لقد شعرت بالارتياح النفسي عندما سمعت جيمي كارتر يفتتح مؤتمر جنيف بوجهه الانجيلي الطيب ويقول هذه العبارة الهامة التي طالما انتظرناها من مسؤول اميركي:

«ان الادارة السياسية في واشنطن مخطئة، لأنها تدعم بدون تحفظ حكومة اسرائيل وتتجاهل عذاب الشعب الفلسطيني. هذا ليس عدلا».

هذه الكلمات البسيطة دخلت الى قلبي وربما قلوب الكثيرين من الفلسطينيين والعرب.

فالاعتراف بالحق فضيلة في كل الاحوال، بل هو الفضيلة الاولى. ثم جاءت كلمة نيلسون مانديلا لكي تكمل ما قاله كارتر. يقول المناضل الكبير: نحن جميعا نشعر بمسؤولية اخلاقية ثقيلة تجاه شعبيكما.. المقصود تجاه الشعب الفلسطيني والشعب الاسرائيلي. فالغرب مسؤول عن المحرقة اليهودية على يد النازيين كما انه مسؤول عن محرقة الفلسطينيين التي تلتها مباشرة. فهناك محرقتان لا محرقة واحدة، وليسمح لي المثقفون اليهود بأن اقارن عذاب الآخرين بعذابهم!

اما فيما يخص حق العودة فلي رأي خاص يتمثل فيما يلي: ينبغي التعويض عنه بطريقتين: مادية ومعنوية. اما التعويض المادي فيتحدثون عن مليارات الدولارات التي تعطيها الجماعة الدولية للمشردين واللاجئين في ارض الشتات. ولكن التعويض المعنوي لا يقل اهمية، ان لم يزد. ويمكن ان يتم على النحو التالي: ينبغي ان تعترف القيادات الاسرائيلية والغربية بمسؤوليتها عن التراجيديا الفلسطينية. وعندما اقول القيادات فإني اقصد بها القيادات السياسية والثقافية. لقد مشى المؤرخون الجدد في اسرائيل خطوة اولى في هذا الاتجاه. ولكنها ليست كافية. وهو اعتراف يمكن ان يحصل بشكل رسمي مهيب وعلى رؤوس الاشهاد. فاعتراف الظالم بأنه مسؤول عما حصل للمظلوم من عذاب شيء مهم جدا جدا من الناحية النفسية، بل ولا يمكن ان يحصل السلام فعليا بدونه. ولهذا السبب فإن الارمن يطالبون تركيا بأن تعترف بمسؤوليتها عن مجزرتهم. وهناك كلمة لفرويد على ما اعتقد وفيها يقول بما معناه: ان روح المظلوم سوف تظل تطلب الثأر حتى ينتصف لها»، او يعترف الظالم نفسه بما اقترفت يداه.. سوف تظل عطشى ولن يهدأ لها بال قبل ان يحصل ذلك.

وبالتالي فقضية فلسطين، ككل القضايا التي تخص الحق والعدل بالدرجة الاولى، لها بعد نفساني لا يمكن الاستهانة به. بل ربما كان العامل النفسي فيها اشد خطورة من العامل السياسي، او قل عامل الارض والجغرافيا. لهذا السبب عجزت حتى القوى الكبرى عن حلها على الرغم من عشرات او مئات المحاولات. فكل محاولة لا تأخذ بعين الاعتبار العامل النفسي الخاص بمسألة الحق والعدل مصيرها الفشل حتى ولو كانت القوة الجبروتية المحضة تقف خلفها.

الشيء الذي يخيفني في لغة المزاودين والديماغوجيين العرب هو العدمية السياسية، بمعنى: اما ان نأخذ كل شيء، او اللاشيء! وهي لغة تعجيز لا تقدم ولا تؤخر ولا تقترح اي حل موضوعي للازمة المستعصية وهي نفس اللغة التي يستخدمونها الآن ضد وثيقة جنيف لتعطيلها او لوأدها في مهدها. الا يخافون الله في هؤلاء الناس الذين يقتلون يوميا وتدمر بيوتهم في الداخل الفلسطيني؟ هل لهم الحق في اطالة عذابهم الى ما لا نهاية؟

ولكن يخشى ان يتحول الديماغوجيون العرب الى جيش طويل عريض من العاطلين عن العمل بعد حل قضية فلسطين! فما الذي سيكتبون بعدئذ؟ وعلى اي شيء سيزاودون؟ مشكلة كبيرة سوف تواجهنا او تواجههم بالاحرى اذا ما حصلت المعجزة يوما ما. ولكني اطمئنهم قائلا: هناك مشاكل كبيرة اخرى كانت تغطي عليها مشكلة فلسطين. وسوف تنفجر في وجوهنا كالقنابل الموقوتة. بل انها ابتدأت تنفجر منذ الآن حتى قبل ان تحل القضية المركزية. في كل الداخل العربي مشاكل معلقة على الرف منذ قرون! فمشكلة الفقر والبطالة وتحديث التعليم والمشافي والزراعة والصناعة كافية لكي تشغلنا عشرات السنين. هذا بالاضافة الى المشاكل العرقية والطائفية او المذهبية والتي تعجز الايديولوجيا العربية بصيغتها الحالية ان تجد لها تشخيصا معقولا، فما بالك بالعلاج!