إنها ناقصة .. ولكن!!

TT

أمر طبيعي أن تواجه «وثيقة جنيف» التي تحمل عنوان: «السلام ممكن» برفض كالرفض الذي ووجهت به كل القرارات الدولية وكل مشاريع الحلول المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من قرار التقسيم الشهير الى قراري مجلس الامن 242 و 338، إلى مشروع روجرز إلى البيان السوفياتي ـ الاميركي، إلى مقررات قمة فاس الاولى والثانية، إلى اتفاقيات أوسلو وما تبعها من قرارات ومشاريع تسوية.

فالقضية الفلسطينية هي أكثر قضايا الكون، وعلى مدى التاريخ، تعقيداً وتداخلاً. ولقد كانت، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، إحدى جبهات الصدام بين الغرب والشرق في تلك الحرب الباردة الضروس التي لم تضع أوزارها إلا في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي. وهي قضية تبدو «المساومة التاريخية» إزاءها صعبة وشبه مستحيلة، حيث هناك شعب هو الشعب الفلسطيني يرى أنه ضحية مؤامرة كونية استلبت منه وطنه في حقبة سوداء. وهناك تجمعات ومجموعات يهودية، غدت شعباً في وقت لاحق، تتسلح بأساطير وخرافات تدعي ان الله منح لليهود هذا الوطن. ولذلك، وفي ضوء هذه التعقيدات وعلى أساسها، فإنه أمر طبيعي أن يصدر حاخامات اليهود في اسرائيل «فتوى» تلصق الخيانة بكل إسرائيلي يوافق على «وثيقة جنيف». كما أنه أمر طبيعي وعادي أن ترتفـع أصوات عربية وفلسطينية تعتبر هذه الوثيقة «خيانية»!! وأنها الطبعة الجديدة المنقحة عن «سايكس ـ بيكو» وأنها تفريط بأهم حق فلسطيني وهو حق العودة. لكن وفي حين أنه لا بد من تفهم كل صيحات الرفض والتنديد على الصعيدين الفلسطيني والعربي، خصوصاً أن الحكومة التي تحكم في إسرائيل هي هذه الحكومة، وأن السياسة الاميركية مصرة على النظر إلى الوضع في هذه المنطقة بعين حولاء، فإنه لا بد من التعاطي مع هذه الوثيقة على أنها حتى الآن ليست ملزمة وليست حلاً أسفرت عنه مفاوضات رسمية بين طرفين مخولين، وأنها ، بصورة وأخرى، ستكون مادة للتفاوض في فترة لاحقة.

لقد اعتدنا وعودنا كثيرون، منظمات وتنظيمات وأحزاب وفي بعض الأحيان دول، أن المواقف تتخذ على أساس الشبهات والمواقف الجاهزة المسبقة، وأن البعض استمر يرفض قرار مجلس الأمن الدولي 242 الذي صدر في عام 1967 دون أن يقرأه بنصوصه الاساسية، وما ينطبق على هذا القرار ينطبق على كل القرارات ومشاريع الحلول السابقة واللاحقة، ومن بينها اتفاقيات أوسلو التي دفع رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين حياته ثمن الموافقة عليها.

لا يمكن اجتراح حل، في ظل التعقيدات والظروف والمعادلات الكونية والاقليمية الحالية، يمكن أن يحظى بإجماع الاسرائيليين وتأييد العرب والفلسطينيين كلهم. فكل الحلول ومشاريع الحلول وكل القرارات ومشاريع القرارات، ومهما جرى تحسينها وترشيقها، ستكون ناقصة بالنسبة للفلسطينيين الذين يعتبرون، ومعهم كل الحق، أنهم ضحية مؤامرة قذرة لا شبيه لها على مدى حقب التاريخ، وبالنسبة لليهود والإسرائيليين الذين يتمسكون بكذبة تاريخية، ويرون أن هذه هي الارض التي وعدهم بها «يهوه»، وأن هذا هو وطنهم الأبدي السرمدي الذي لا وطن لهم غيره. إن هذه أمور معروفة، ولكن على العرب والفلسطينيين، الذين يرون أنه من غير الممكن اجتراح الحل المثالي في ظل هذه المعـــادلات والظروف الدولية ، أن يتعامـلوا مع «وثيقة جنيف» على اساس أنها إلقاء للكرة في ملعب حكومة «الليكود» الاسرائيلية، وأيضاً وبالمقدار ذاته، في ملعب الادارة الجمهورية الاميركية. وأنها، أي هذه الوثيقة، رغم نواقصها ورغم الكثير من الملاحظات المحقة عليها، إلا أنها إذا أحسن الفلسطينيون أولاً والعرب ثانياً التعامل معها، يمكن أن تتحول الى سلاح فعال لتعزيز التعاطف الدولي المتصاعد والمتنامي مع الشعب الفلسطيني وقضيته وتغيير موقف الادارة الاميركية.

لا يجوز أن يبقى الشعب الفلسطيني محاصراً بهذه الطريقة ويبقى شارون يسـوِّقُ كذبته بأنه لا يوجد الشريك الفلسطيني الذي يمكن التفاوض معه، وأن كل الفلسطينيين «إرهاربيون»!! ولهذا فإنه على الدول العربية، المعنية فعلاً لا قولاً، أن تتحرك بسرعة، وأن تستغل الظروف لإلزام الولايات المتحدة لتكون هذه الوثيقة رديفاً لخارطة الطريق، ولتكون أيضاً رديفاً لمبادرة السلام العربية التي تم الاتفاق عليها بالإجماع في قمة بيروت الأخيرة.