عم تتحدثون: هذا هو صدام حسين؟

TT

لا ندري ما إذا كان صدام حسين، وهو قابع في مخبئه، يقرأ الصحف العربية هذه الأيام. وإذا كان يقرأ هذه الصحف فإنه لن يكون سعيدا ازاء الطريقة التي يعلق بها أصدقاؤه على إنجازاته الماضية.

فقد انتجت نهاية صدام، على وجه العموم، ثلاثة مواقف من أولئك الذين يبدون الندم على تلك النهاية. الموقف الأول يخص القوميين المتعلقين بالأمجاد الماضية، والذين يفضلون أن يبقى العراق معلقا على المشنقة لعدة عقود على أن يروا طاغية عربيا يزاح بواسطة الأميركيين. والموقف الثاني يخص أولئك الذين يعتقدون أن صدام كان بيدقا في صراع السلطة والنفوذ، تديره الولايات المتحدة، وأن هذه الأخيرة أزاحته عندما قرر أن يلعب لمصلحته الخاصة. أما الموقف الثالث فيحاول إقناعنا بأن صدام كان قائدا حسن النية استغلت القوى الكبرى سذاجته لخدمة أهدافها الشريرة.

تشترك هذه المواقف الثلاثة في سوء فهمها لدور صدام حسين، وتعاملها معه كمجرد أداة في يد التاريخ.

الموقف الأول يتحدى التحليل العقلاني لأنه يقوم على ما يسميه علماء الاجتماع،«العواطف الجمعية» وهي مصطلح أكثر لطفا من الروابط القبلية. وهي نوع من العواطف نراها عند الزوجات اللائي يتعرضن للضرب من أزواجهن ولكنهن يفضلن المعاناة في صمت على طلب المساعدة من الجيران. وهذه الروابط السحرية تنشأ وسط مجموعات عديدة من قساوسة التبت وحتى أعضاء عصابات المافيا. أما الموقف الثاني والذي يصف صدام بأنه مجرد بيدق، فلا يسر صاحبه.

ونذكر أن صدام كان يقارن نفسه بحمورابي، الذي كتب أول القوانين في التاريخ الإنساني، واضعا بذلك بنية أساسية ما كان يمكن للحضارة ان تزدهر بدونها. ولن يسر صدام، والحالة هذه، أن يوصف بأنه كان مجرد بيدق لواشنطن، التي استغنت عنه في النهاية.

أما الموقف الثالث والذي يقول أن صدام كان لعبة في يد الدول العظمى، فهو الأكثر انتشارا وسط الناس. ويرجع السبب في انتشاره أنه ينسجم مع المفهوم الذي يرى التاريخ سلسلة من المؤامرات التي يمسك بعضها برقاب بعض.

من الصعب النظر الى هذا الموقف كونها خدعة.

فالكثيرون، ابتداء من مراكش وحتى مسقط مرورا بالقاهرة ودمشق، توصلوا الى انه من الصعوبة بمكان ان يرتكب زعيم عربي هذا الكم الهائل من الاخطاء بدون ان يكون قد تعرض للتضليل من الآخرين.

ترى، لماذا قرر صدام قتل الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني عام 1969 مما ادى الى اندلاع حرب اهلية استمرت ست سنوات؟

اجاب انصار نظرية المؤامرة عن هذا السؤال ببساطة وقالوا إن صدام اقدم على ذلك استنادا إلى معلومات خاطئة من الموساد. وأضافوا ان اسرائيل كانت تعتزم الإبقاء على العراق منشغلا وتبعده عن أي تحالف عربي يجري تكوينه ضد الدولة العبرية.

ولماذا قرر صدم إقفال شط العرب أمام السفن الايرانية في نفس الوقت تقريبا مما ادى الى حرب حدودية دامية انتهت بتعرضه لهزيمة مذلة عام 1975؟

مرة اخرى، انصار نظرية المؤامرة لديهم اجابة عن هذا السؤال وهو ان السوفيات كانوا يبحثون عن قاعدة في الخليج العربي في الوقت الذي كان يهم فيه البريطانيون بالانسحاب من شرق السويس عن امل ان يعطيهم العراق، الذي يتهدده خطر ايران، ما كانوا يريدونه.

حسنا، ولكن لماذا غزا صدام حسين ايران عام 1980؟

يذهب انصار نظرية المؤامرة في الاجابة على هذا السؤال الى ان الولايات المتحدة كانت تريد احتواء الثورة الخمينية لدى ايران وحثت صدام حسين على بدء حرب ضد طهران.

ولكن ما الذي دفع صدام حسين الى غزو الكويت عام 1990؟

الاجابة هنا معقدة بعض الشيء. يقال ان صدام حسين فهم خطأ ما قالته ابريل غلاسبي، سفيرة الولايات المتحدة لدى بغداد. فقد ابلغت غلاسبي صدام حسين بأن النزاع مع الكويت قضية داخلية وأنه من الافضل التوصل الى حل بشأنه من خلال محادثات ثنائية، مما ترك انطباعا لدى صدام بأن واشنطن لا تمانع اذا ضمت القوات العراقية الكويت.

ثمة قراءات متناقضة للدور السوفياتي، فهناك نظرية يذهب اصحابها الى أن موسكو حذرت صدام حسين من مغبة غزو الكويت وأرسلت يفجيني بريماكوف الى بغداد لمنع وقوع الحرب. فيما تقول نظرية اخرى ان موسكو، التي اصطدمت مع واشنطن، شجعت صدام حسين على الوقوع في الفخ الكويتي.

حسنا، ولكن لماذا اصر صدام حسين على ممارسة لعبة القط والفأر مع الامم المتحدة على مدى 13 عاما مما لم يترك أمام الولايات المتحدة وحلفائها خيارا سوى إطاحته؟

إجابة انصار نظرية المؤامرة عن هذا السؤال مثيرة للاهتمام. فهم يذهبون الى ان الولايات المتحدة طلبت من بعض الحلفاء، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، التظاهر بمعارضة استخدام القوة ضد العراق بغرض إعطاء صدام حسين انطباعا بأنه ربما يفلت مرة اخرى.

أي ان هؤلاء يعتقدون ان المواجهة التي حدثت بين وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر ووزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد لا تعدو كونها مسرحية لخداع صدام. كما يعتقدون ايضا ان المواجهة بين وزير الخارجية الاميركي كولن باول ونظيره الفرنسي دومينيك دو فيلبان في اروقة الامم المتحدة لم تكن سوى مسرحية اخرى كي يصدق صدام حسين ان الغرب يعاني من انقسام عميق وأنه لن يقدم على غزو العراق.

وفقا لأنصار نظرية المؤامرة لم تكن لصدام قط ارادة خاصة، وكان بالإمكان استغلاله من جانب أي شخص يرغب في استخدامه. وفي هذا الشأن كان يشبه القط في فيلم الكارتون «توم أند جيري» الذي يمحى وجهه من قبل الفأر في احدى القصص بينما هو نائم. وفي البحث عن وجه جديد يذهب القط من صانع وشم الى آخر ليحصل على وجه مختلف في كل مرة. وقد وفر له أحد صناع الوشم وجها مكسيكيا وعلبة من سمك السردين كمكافأة.

أسرع القط الى القول «لا تهتم بعلبة السردين. أعطني وجهي فقط».

وهذا ما قد يقوله صدام لأولئك الذين يحاولون تفسير أخطائه المأساوية بالاشارة الى أنه اما أن يكون مهرجا ساذج، أو مرتزقا يبيع خدماته لمن يدفع أكثر.

ولم يكن صدام، بالطبع، أيا منهما.

كان أكبر مستبد عربي برؤية منحرفة عن دوره في التاريخ. كان ضحية النظام الذي أقامه، وهو نظام كان فيه الرئيس لا يسمع مطلقا آراء مختلفة ويقرر الأمور، دائما، بمفرده.

كان صدام مقامرا. ولكنه لم يكن يقامر إلا بحياة ومستقبل شعبه. وحتى اذا ما خدعته هذه القوة الأجنبية أو تلك، فانه يبقى مسؤولا عن أفعاله وآثامه.

وقد كان بوسعه أن يقدم خدمة لشعبه، وربما لمكانته في التاريخ، لو أنه خرج من مخبئه ليواجه محاكمة. ان محاكمة مناسبة يمكن أن تمنحه فرصة لتفسير سجله والدفاع عنه، وإظهار أنه لم يكن مجرد رهان في لعبة مارسها آخرون. ويمكن لمثل هذه المحاكمة أن تساعد العراقيين أيضا، والعرب عموما، على فهم جذور الشر التي أنزلت البلاء بقضاياهم لعقود.