رصيد مشرف

TT

أشرت يوم امس الى كلمة «الرحمة» التي تنفرد اللغة العربية بها وتعتز بأبعادها ومفاهيمها. ألقت هذه الكلمة القرآنية ظلالها على كثير من جوانب تاريخنا السياسي. كنت اتابع السلسلة التلفزيونية لـ«بي.بي.سي» عن الامبراطورية العثمانية. روّعني منها الطريقة التي كان يستعملها السلاطين في تثبيت حكمهم، وهي ان يبادر السلطات حال تسلمه الحكم الى قتل جميع اخوته خوفاً من تآمرهم عليه. كان منهم ذلك السلطان البارع الغزير العلم والثقافة، السلطان مراد. مع كل هذا الجانب الطيب من شخصيته فانه لم يتردد حالما تم تنصيبه في قتل اخوته التسعة عشر. وقف أهالي اسطنبول امام قصر الخليفة وهم يرون الجنائز تخرج من القصر واحدة بعد الاخرى طوال النهار وامامها المقرئون يرددون «الله أكبر! الله أكبر! ولا حول ولا قوة الا بالله».

قالوا ان الملائكة في السماء اخذوا يبكون وهم ينظرون الى هذا المشهد الجاري على الأرض.

أمام الصعقة التي شعرت بها الحاشية والبلاط والرأي العام الأوربي، ترأف السلاطين فيما بعد فعمدوا الى سجن اخوتهم فيما سموه بالقنص. يبقون في عيشة مرفهة ولكن لا يجوز لهم الاتصال بأي أحد.

قبل ذلك، كان القواد العجم يفقأون عيني الأمير ليحرموه من أهليته لتسلم الحكم. وهو اجراء انساني كبير بالنسبة لما فعله العثمانيون. ولم يكن الأوربيون اقل رحمة بكثير، ففي بريطانيا بلد الديمقراطيات قطعت الملكة إليزابيث رأس أختها ماري لتتخلص من منافستها. وخنق رشارد الثالث طفلين في المهد طمعاً بالعرش. فلنقارن ذلك بتاريخنا السياسي لندرك مدئ مدنيتنا القائمة على شعار الرحمة. لا اريد ان اكون عنصرياً في هذا الصدد ولكن الواقع التاريخي يقول ان الحادثة الوحيدة للفترسايد (قتل الأخ) في تاريخنا جرت بمقتل الأمين بأوامر المأمون الذي كانت والدته جارية فارسية وقاد جيشاً من الفرس ضد أخيه العربي المنبت. القاعدة في تاريخنا العربي هي ان الاخوة يقفون درعاً لأخيهم الحاكم لا ان يتآمروا عليه. حتى أسرة صدام حسين احترمت هذه القاعدة.

الحقيقة الواضحة ان اولئك القوم من البدو الأفظاظ الذين خرجوا من فيافي الجزيرة العربية بدشاديشهم الرثة وبطونهم الخاوية وفتحوا العالم على صهوات خيولهم الجرداء، اظهروا من المدنية والرأفة والاحترام في تعاملهم مع الشعوب المغلوبة ما لم تظهره أية أمة فاتحة. قارنوا دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للقدس بدخول نبوخذنصر، او بدخول هولاكو وتيمورلنك لبغداد او الاغريق لطروادة. لم يمس العرب حتى اصنام الآلهة الفرعونية وتركوها بكامل اعضائها الجنسية. بقيت كذلك حتى القرن التاسع عشر عندما جاء الفرنسيون واعتبروا ذلك «عيباً مخلاً بالأدب» فأزالوا تلك الاعضاء.

لم يرث العرب او يطوروا تلك الملاهي الداعية التي استأنس بها الرومان والأوروبيون كمصارعة الاسود والثيران والمبارزة حتى الموت في الملاعب العامة. ولا استأنسوا بالقاء المسيحيين او اليهود ببين انياب السباع والتفرج عليها كيف تأكلهم. انس العرب انحصر بالحب والعشق والطرب والكأس. استمتعوا بلياليهم الملاح القائمة على صحبة الانسان وحلو الكلام وقرض الشعر. الماء والخضراء والوجه الحسن.

ليس في تاريخنا ما نخجل منه. لم نقم بأي مجزرة او محرقة، لم نضرب أحداً بالنابالم ولا بالقنابل الذرية. لم نشرد أي شعب ولا اخرجنا أي أمة من دينها، لم ندمر أي مدينة ولا قضينا على أي حضارة. يعيبون علينا فقط اننا أمة لاهية. فليكن!