في العراق.. يقتلونه ببطء

TT

خلال مقابلته مع الرئيس الاميركي جورج بوش في لندن، سأله عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير «الشرق الأوسط»، عما اذا كان ينوي زيارة بغداد، وضحك بوش وقال «لا أدري. احاول الانتهاء من زيارتي هنا لانجلترا». وبعدها بخمسة ايام كان الرئيس يقدم عشاء عيد الشكر الى 600 جندي أميركي في العاصمة العراقية.

وفي واشنطن، العاصمة التي لا تعرف كيفية الاحتفاظ بسر، تمكنت الدائرة المحيطة بالرئيس من الاحتفاظ بالسر. وخلال ذلك تمكن بوش من إلقاء اول قنبلة في الحرب من دون التسبب في اية خسائر ـ بغض النظر عن الاضرار التي لحقت بالحزب الديمقراطي. فزيارة السناتور هيلاري كلينتون القادمة لبغداد تبدو انها فقدت إثارتها بالمقارنة.

ان الصورة ابلغ من الف كلمة. وهي ميزة هامة بالنسبة لرئيس يحتفظ الناس بزلاته اللغوية في اجهزة الكومبيوتر وتتردد في برامج الدردشة على التلفزيون. وغاص بوش في بحر من الايادي التي تقدمت لمصافحته والتصفيق الحاد والوجوه المبتسمة في مشهد يذكرك بأفلام هوليوود المخضرمة. وكانت اهم الصور عندما قدم عشاء عيد الشكر الى رجال ونساء كانت معنوياتهم تتدنى بسرعة تراجع شعبيته.

ومن المفارقات ان رحلة «بوش في بغداد» التي استغرقت ساعتين ونصف الساعة، والتي من المرجح ان تحدد هوية رئاسته في السنوات القادمة، قد تحولت مباشرة الى اشرطة الفيديو. فقد تم بث لقطات من الزيارة بعدما كانت طائرة الرئاسة في طريق عودتها للولايات المتحدة وقبل ان يلتهم ملايين الاميركيين كميات كبيرة من لحم الديك الرومي «الذي يسبب النعاس» وعشرات من الاطباق الاخرى والحلويات «التي تؤثر على السلوك الادراكي».

وقد سمح بوش الذي يمزح مع الناس ويرتدي سترة مريحة، لملاحظاته المعدة مسبقا ووجوده، بإعطاء انطباع يعكس جدية الهدف من رحلته. وقال «بمساعدة الشعب العراقي على التحرر، فأنتم تساهمون في تغيير منطقة مضطربة يسودها العنف في العالم. وبالمساهمة في اقامة دولة سلمية وديمقراطية في قلب الشرق الاوسط، تدافعون عن الشعب الاميركي ضد تعرضه للخطر ونحن نشكركم».

وإذا كنت تشك في تصميم الرئيس لنجاح حملة «عصر جديد في العراق»، فإن زيارته لمنطقة قتال ـ وليس لموقع عسكري بعيد، ولا قاعدة في دولة ثالثة ـ يجب ان توضح مدى عمق تصميمه على النجاح في العراق. فقد غامر بحياته وقامر بمستقبله السياسي لطرح رسالة قديمة، ولكن رسالة لم يتردد صداها بين العراقيين عندما كانت المنصة في واشنطن وليس في بغداد: «ان نظام صدام حسين قد ولى للأبد».

وفي الواقع فإن زيارة بوش للعراق كانت زيارة تاريخية ـ سواء لكونها أول زيارة لرئيس اميركي للعراق، او لغياب اي نظير عراقي لاستقباله.

غير ان بوش ليس اول قائد اعلى يزور منطقة قتال. ففي عام 1990 زار والده القوات الاميركية الموجودة في السعودية في يوم عيد الشكر. وزار الرئيس ريتشارد نيكسون فيتنام عام 1969، وكذلك فعل الرئيس ليندون جونسون. وتجول الرئيس دويت ايزنهاور بجولة في المواقع الاميركية في كوريا عام 1952.

تجدر الاشارة الى ان نسبة كبيرة من الاميركيين لن ينظروا لزيارته الى بغداد من منطلقها التاريخي. وقليل منهم يتذكر زيارة الرئيس بيل كلينتون، التي لا تقل خطورة، مرتين للبلقان. وبالنسبة لمعظم الاميركيين فإن الحاضر والمستقبل اكثر اهمية من الماضي. وبالتالي فإن جرأة بوش لا بد ان سيطرت على احاديث ملايين الاميركيين حول موائد الاحتفال بعيد الشكر عبر الولايات المتحدة.

وقبل اقل من عام على الانتخابات، فإن بوش في حاجة الى ان تتركز احاديث الناخبين على رؤيته لاميركا. واعتمادا على نظرتك السياسية فإن الصور التي خرجت من بغداد اما هي انعكاس لقلق الرئيس الصادق على قواته وعلى العراقيين على حد السواء، او هي حركة سياسية ذكية لتحسين وضعه بالنسبة لنوفمبر القادم. وفي الحالتين فإن جولته ربطت اعادة انتخاب بوش بالتقدم في العراق، بغض النظر عمن هو المسؤول على الارض ـ بول بريمر، احمد الجلبي، او آية الله السيستاني. فقد قال الرئيس وسط تصفيق حاد «سنبقى الى ان ننهي العمل»، ومما لاشك فيه انه يأمل ـ وهو ما يخطط له مستشاروه ـ في الحفاظ على نوعية الدعم من اجل حملة طويلة المدى تقضي على المتمردين وتؤدي الى تثبيت الاوضاع في العراق. ولا يمكنه القيام بذلك من دون دعم العراقيين العاديين، فلا يمكنهم منحه تأييداً مائة في المائة، على العكس من الاميركيين، فإن التاريخ هو جزء من نسيج الحياة وهناك سابقة تاريخية. فامكانية ان يخذلهم الابن مثلما خذلهم الاب تمنع العديد من العراقيين من بذل جهد اكثر سوى مراقبة الفوضى.

غير ان بوش يحتاج للشعب العراقي للفوز بأصوات الوسط الاميركي. ومع وجود صدام على الاطراف وعدم انتشار الاستقرار في الشارع يبدو من غير المرجح انه يمكنه القيام بذلك من دون تدخل الهي او زيادة المقابل. ربما يدعو الله من اجل تحقيق الامر الاول ولكنه قاد الامر الثاني بنفسه. وكأنه يقول لا تقعوا في خطأ «ليست هذه رئاسة بوش رقم 41».

وكان من المفروض ان يقضي الرئيسان اجازة عيد الشكر في مزرعة الرئيس في كراوفورد بولاية تكساس، ولم يعرف الرئيس الأب أي شيء عن مهمة ابنه الخاطفة مثلما حدث للرأي العام. على الاقل هذه هي القصة الرسمية من البيت الابيض. واذا كان ذلك حقيقيا، فليست هذه المرة الاولى التي يفاجئ فيها الابن الاب.

فمنذ توليه منصب الرئاسة، بذل بوش كل ما في وسعه للقضاء على انجازات كلينتون، كما كان مصمما على ابعاد نفسه عن والده. فمنذ انتصاره في انتخابات 2000 يركز مستشاروه السياسيون على الولاية الثانية. فلا يريد احد ان يرتبط اسم الاسرة «بولاية الفترة الواحدة». وفي بداية ولايته رفض بوش محاولات من المحافظين لمهاجمة العراق. وربما كانت خبرته من تجربة والده في حملة 1992 والثمن الذي دفعه بوش الاب لتحقيق النصر في الحرب ولكن خسارة الانتخابات هي الدافع وراء رفضه.

لقد غيرت هجمات 11 سبتمبر هذه الحسابات السياسية، وأقنعت الرئيس ان مساحة صغيرة تفصل بين صدام وبن لادن. وفي هذه الحالة فإن «القاعدة» بالنسبة لهذه الادارة هي لا شيء اهم من النجاح نفسه. وكانت احدى الافكار الخيالية المؤيدة للحرب هي نظرية ان اسقاط صدام وإعادة تنظيم العراق ستجعل الدول العربية الاخرى تنظر الينا نظرة تفضيلية، وان الدول الاخرى ستنضم للهجوم. وبالرغم من ان هذا السيناريو لم يتبلور بعد، فإن بوش يعتقد بصراحة ان أميركا، يمكنها، وحدها، تولي الامر وتحديد مستقبل العراق.

ويعني القيام بذلك ان بوش يحدد مستقبله هو. فبعد ظهوره المفاجئ يوم الثلاثاء، طرح بوش قضية «قطاع الطرق والقتلة» وربما التمرد الداخلي الذي لا تتحمل الادارة الاشارة اليه. واذا كانت لديهم بعض الشكوك من قبل، فقد اصبحوا على يقين الان ان العراق يحتل مكانة كبيرة في افق بوش السياسي. وهم ليسوا في حاجة للتصويب على طائرة الرئاسة. فيمكنهم التوجه مباشرة الى شريانه السياسي وجعل العراق ينزف ـ وبالتالي قتل مستقبل الرئيس قتلا بطيئا.

* كاتبة أميركية