شيفارنادزة.. من الدبلوماسي الجهبوذ.. الى الرئيس المنبوذ

TT

استقالتا الرئيس الجورجي السابق ادوارد شيفارنادزة السابقتين من الرئاسة كانتا بمثابة معلم بارز في تجربته السياسية الممتدة التي لامست بعضاً من اهم التغيرات في السياسة الدولية خلال العقدين الماضيين. إلا ان تصميمه وفرض نفسه على الاحداث لم يمنع شينفارنادزه من الوصول الى نهاية تجربته في السياسة كشخص منبوذ وفاشل في بلده.

النتائج المترتبة على اطاحة شيفارنادزة نهاية الاسبوع الماضي كرئيس لجمهورية جورجيا الصغيرة ستكون لها انعكاساتها المهمة والبارزة. فهذه الدولة التي لا يتعدى عدد سكانها 5 ملايين نسمة تعتبر مركزا للحرب العالمية ضد الارهاب والسياسات العالمية المتعلقة بالنفط والعلاقات الاميركية ـ الروسية.

إلا ان ما حدث يعتبر ايضا قضية شخصية وحكاية ذات بعد تحذيري للسياسيين، الذين تفتقر غالبيتهم فيما يبدو الى إدراك المخاطر التي تتهدد نسف انجازاتهم. ثمة فصول ثانية في حياة السياسيين، كما اثبت ريتشارد نيكسون، إلا ان المسرحية تنتهي نهاية مأساوية في غالبية الحالات، كما اثبت نيكسون ايضا. شيفارنادزة أكد من جانبه هذه القاعدة.

الوقوف على الرحلات التي قام بها شيفارنادزة الى الغرب عقب تعيينه وزيرا لخارجية الاتحاد السوفياتي السابق عام 1985، يمكن ان يسلط الضوء على وجود قوة جديدة في المسرح العالمي. فقد كانت اهم وظيفة شغلها حتى ذلك الوقت هي المسؤولية عن بعض عصابات جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق (كي جي بي) في جورجيا. لكنه كدبلوماسي اظهر فصاحة والتزاما ازاء تغيير صورته السابقة كخبير في قلع الاظافر. وبوصفه من اقرب المساعدين الموثوق فيهم لدى ميخائيل غورباتشوف لعب شيفارنادزة دورا رئيسيا في تطوير الغلاسنوست والبيريسترويكا وتفكيك اوصال الامبراطورية السوفياتية السابقة. وعندما اشار قادة ألمانيا الشرقية الستالينيين عام 1989 الى الحاجة الى قوات للمحافظة على جدار برلين والإبقاء عليه في مكانه، رفض شيفارنادزة وغورباتشوف التدخل.

سألته في آخر لقاء لي معه قبل حوالي 30 شهرا في القصر المتهالك بالعاصمة تبليسي عن القرار الخاص بعدم التدخل في تطورات الاحداث التي قادت الى سقوط جدار برلين. أجاب شيفارنادزة قائلا ان اصدار الجيش الاحمر تعليمات بالتدخل في الاحداث كان امرا مشكوكا فيه عقب الكوارث التي تعرض لها في افغانستان.

ترك شيفارنادزة على نحو مفاجئ العمل كوزير للخارجية عام 1990 في الوقت الذي دخل فيه غورباتشوف في دوامة سياسية. وقال شينفارنادزه أمام مجلس الدوما ان «الإصلاحيين غادروا واختفوا في الاحراش» وحذرهم من ان «الدكتاتورية قادمة».

وبدلا من ذلك واجه بوريس يلتسين انقلابا رجعيا بعد 9 اشهر ثم بدأ علمية تفكيك الاتحاد السوفياتي. وحصلت جورجيا وغيرها من الجمهوريات السوفياتية، بمقتضى ذلك على استقلالها. وعاد شيفارنادزة اكثر الرجال كراهية في روسيا بسبب دوره في الانهيار السوفياتي، الى بلاده ليتولى منصب الرئيس لمنع وقوع جورجيا في فخ الحرب الاهلية.

وبالرغم من الادوار المتعددة والمتناقضة التي لعبها، لم يكن متقلبا ومتعدد الالوان. فقد طبق طاقته ومواهبه على المهام التي يواجهها ثم انغمس فيها تماما. من المشرف على جهاز المخابرات السوفياتي (كي جي بي) الى المصلح صاحب الرؤية، الى اداء الايام الاخيرة كسلطوي الى حد. وعاش وجوده المتعدد من الداخل للخارج. ووصل الى القمة وهبط الى القاع بطريقة لا يمكن تخيلها بالنسبة للسياسيين المعاصرين.

فقد كان حاضرا عند تدمير الامبراطورية السوفياتية ولعب دورا رئيسيا في انهاء الحرب الباردة. وكما قال وزير الخارجية الاميركي الاسبق جيمس بيكرفلقد لعب شفاردنادزه دورا حيويا في جعل عملية توحيد ألمانيا تمر بهدوء والحصول على دعم الامم المتحدة لحرب الخليج عام 1991. ولعب شيفارنادزة دورا اساسيا في استراتيجية ادارة كلينتون لمنع اعادة انضمام جورجيا الى كومنولث الدول المستقلة (الاتحاد السوفياتي سابقا) وغيرها من الجمهوريات السابقة، وقدمت له مساعدات اقتصادية سخية وعلاقة مميزة مع حلف شمال الاطلسي. وبعد احداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، سعى شفارنادزه الى جعل جورجيا عاملا هاما في حرب الرئيس بوش على الارهاب العالمي.

الا ان بوش المقتنع بحاجته الى الرئيس السوفياتي فلاديمير بوتين اكثر، في هذا الصراع، تبنى سياسية متقلبة من الكلمات الطيبة والدعم المحدود لشيفارنادزة. وعندما تصاعد الغضب السياسي بخصوص الانتخابات المزورة في الاسبوع الماضي في برلمان جورجيا، انضم كولن باول الى الروس في التلميح لشيفارنادزة بأن الوقت قد حان لكي يذهب.

وتوصل شفاردنادزه الى نفس القناعة عندما اصبح من الواضح له انه لا يمكنه الاعتماد على نداء للجيش بالتدخل العسكري.

ان الاستقالة وأنت على القمة لا تقع كثيرا بالنسبة للسياسيين المرموقين. وبدون فترة حكم ثانية لم يكن نيكسون ليعرف فضيحة توجيه الاتهام والاستقالة، وكان يمكن لرونالد ريغان تجنب فضيحة «ايران ـ كونترا»، ولم يكن لبيل كلينتون ان يواجه «فضيحة لوينسكي» في البيت الابيض. هذه سوابق، يجب على جورج دبليو بوش وضعها في الاعتبار ـ ومن المؤكد انه لن يفعل.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»