الانتفاضة المستحبَّة

TT

كأنما هي حالة من حالات الاستنساخ أو الاقتباس، ذلك التغيير الذي حدث في جورجيا قبل عشرة أيام، وانتهى في الأسبوع الأخير من نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 بمثل ما انتهى إليه التغيير المستنسخ عنه، أو المقتبَس عنه في السودان في الأسبوع الأخير من اكتوبر (تشرين الاول) 1964. وبين هذين التشرينين طوال 39 سنة لم يحدث تغيير السلطة بالشكل الذي حدث، بمعنى ان إسقاط الرئيس تم بفعل التظاهر ومن دون إراقة دماء، ولأن الجيش وقف على الحياد عدا حالات من الالتحاق من جانب بعض الضباط بالمتظاهرين وفي صيغة دعم خفي يتمثل في عدم التصدي لهم. من باب التذكير في معرض المقارنة، نشير إلى أن التغيير الذي استهدف إسقاط المجلس العسكري الذي يترأسه الفريق ابراهيم عبود، بدأ بتظاهرة لطلاب جامعة الخرطوم ما لبثت ان استقبلها الرأي العام السوداني بالترحيب، فانضمت جماهير الأحزاب إلى الطلاب ورفع المتظاهرون شعارات ضد جنرالات الحكم كان الأبرز فيها هتاف المتظاهرين: إلى الثكنات يا حشرات. وبعد هذه التظاهرة وعدم ترحيب صغار الضباط في تنفيذ أوامر الأعلى منهم بالتصدي للمتظاهرين، استسلم جنرالات المجلس العسكري الثلاثة عشر للأمر الواقع وتسلم زعماء أحزاب المعارضة الحكم في تجربة هي الأولى من نوعها. وكانت إطلالتهم وقوفاً في الصورة التذكارية (من اليمين الى اليسار: الصادق المهدي، الشيخ علي عبد الرحمن، محمد أحمد محجوب، اسماعيل الأزهري، حسن الترابي، فاطمة إبراهيم، وعبد الخالق محجوب)، موضع ارتياح أهل السودان، وبالذات لأن الإسلاميين وقفوا إلى جانب الأنصاريين والختميين والاشتراكيين والشيوعيين والمستقلين القوميين، الأمر الذي يوحي بعدم استحالة الوحدة الوطنية، لكن هذا الارتياح ما لبث ان تلاشى نتيجة صراعات طاحنة بين هؤلاء الزعماء، فحق عليهم معاودة إطلاق العبارة الأندلسية الشهيرة مع بعض التعديل «تبكي كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال». وفي ظل هذه الصراعات، اخترق ثمانية من رواد الجيش ومدني واحد يترأسهم اللواء جعفر نميري حالة التهالُك بين زعماء المعارضة، وقامت «ثورة 25 مايو 1969» من دون اراقة دماء. وانتهى الأمر بهؤلاء الزعماء في السجن. ثم توالت المفاجآت والمحاولات الانقلابية، وسالت نتيجة لذلك على الأرض دماء كثيرة وأُزهقت أرواح مدنيين وعسكريين شنقاً أو بالرصاص. هذا بالنسبة إلى الحالة السودانية المقتبَس عنها أو المستنسَخة بعد 39 سنة على أيدي الجورجيين في بلاد القوقاز. أما بالنسبة إلى هذه الأخيرة فإنها بدأت بتظاهرة شعبية اتسعت رقعتها بعد تزوير للانتخابات، ثم اشتد ساعد المتظاهرين عندما صدرت عن الإدارة الأميركية انتقادات للعملية الانتخابية. وفي ذروة الغضب الشعبي الذي لم يتدخل الجيش لمحاصرته، فضلاً عن اتصالات سرية بين بعض رموز الأمن في مؤسسة الحكم وبعض قادة المعارضة، اقتحم المتظاهرون مبنى البرلمان. وكان المشهد مثيراً للدهشة خصوصاً عندما تم إخراج الرئيس المغضوب عليه إدوارد شيفارد نادزه مذعوراً، وبذلك سقطت الهيبة الرئاسية. ولم يعد هنالك أي مجال سوى الاستسلام للأمر الواقع أو استعمال الرئيس بعض السلطات واللجوء إلى القوة التي قد يأخذ بها الجيش وقد يعترض. وفي لحظة وعي طارئ شعر خلالها شيفاردنادزه بأن الكرملين يفضل رحيله، سارع الى ايفاد وزير الخارجية ايفانوف للتحقق من البديل، وإن الإدارة الأميركية مع الرحيل أيضاً، إنما مع بعض التريث ما دامت توجهات البديل غير واضحة بما فيه الكفاية، قرر الرئيس المغضوب عليه، الذي لم يلاحظ في اتصال وزير الخارجية الأميركية كولن باول ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس هاتفياً به اي حماسة لنجدته، وضع توقيعه على صك التنحي بعد إحدى عشرة سنة من حكم قائم على الفساد، لخصه الرئيس الروسي بوتين في اجتماع للحكومة، بينما كان الوزير ايفانوف يتولى صياغة إخراج شيفاردنادزه بأقل المخاطر التي قد تصيب روسيا في حال نشبت حرب أهلية تؤدي إلى تبعثر الكيان الجورجي، بالقول «إن الفساد هيمن بشكل متزايد على الاقتصاد والسياسة في جورجيا، ولم تعد الناس ازاء حالة الفقر ترى أي ضوء في الأفق.. بعدما وصلت السياسات الاقتصادية إلى حد تسوُّل المساعدات الخارجية».

تبقى في معرض المقارنة بين الحالة الجورجية والحالة السودانية الإشارة إلى أن بين الاثنتين جوامع أخرى كثيرة عدا موضوع الفساد وتسوُّل المساعدات الخارجية. فمثلما هنالك في السودان شوكة الجنوب الذي كان دائماً مهدداً بالانفصال، هنالك في جورجيا شوكة منطقة «إدجاربا» التواقة إلى الانفصال عن الكيان الأم. ومثلما هنالك في السودان منطقة «دارفور» التي تنتعش فيها مشاعر انفصالية هنالك في جورجيا «دارفورها» متمثلاً بإقليم «اوسيتيا» واقليم «أبخازيا» اللذين تتزايد خيارات الانفصال فيهما وبالذات نتيجة أن سنوات شيفارد نادزه كانت سنوات انصراف رئيس البلاد وجماعاته إلى جمع المال على قاعدة الفساد والإفساد وإلاَّ فما معنى أن يشتري شيفارد نادزه في المنتجع الألماني الشهير «بادن بادن» دارة بثلاثة عشر مليون دولار بينما البلاد في أسوأ الأحوال المعيشية.

يطول الحديث في هذا الشأن وتتكاثر أوجه اشبه والمقارنات. ولكن تبقى على هامش اليوم النوفمبري القوقازي الذي ما أشبهه من حيث الظروف والدواعي والتداعيات والضجر من طول بقاء الرؤساء في سدة الحكم، بالأمس الأكتوبري السوداني ثلاث ملاحظات.

الأولى هي أن الهاجس النفطي هو الذي جعل الإدارة الأميركية في عهد بوش الأب تضع شخصاً فاسداً ومفسداً على رأس الحكم في جورجيا هو شيفارد نادزه وزير خارجية الحقبة الغورباتشوفية، وأن الهاجس نفسه هو الذي جعل الإدارة الأميركية في عهد بوش الابن تقرر إيجاد تسوية في السودان.

والملاحظة الثانية التي تكمل الأولى هي أن الإدارة البوشية في عهد الأب أسست من خلال وضع موطئ قدمين بدل القدم الواحدة في جورجيا من خلال ترئيس شيفارد نادزه، لزمن تكون فيه القبضة الأميركية على هذا البلد بمرتبة حماية متقنة للأحلام البوشية التكساسية في النفط القوقازي وبما يضمن السلامة لمشروع خط الأنابيب «باكو تبليسي ـ جيهان» الذي يتجنب المرور في الأراضي الروسية والذي تبلغ كلفته 3.6 مليار دولار والذي سيؤسس لمشروع آخر يقضي بنقل الغاز عبر جورجيا. وتخشى الإدارة الأميركية وارثة الحلم القوقازي بأن يتكسر الحلم على أعتاب الجار الروسي الذي خطف باسقاط شيفارد نادزه بعض الدور من تلك الإدارة التي لولا الخشية من مواجهة لا قدرة لها على خوضها عسكرياً مع روسيا بوتين الذي لا تنقص مخيلته الأحلام القيصرية، لكانت فعلت بجورجيا احتلالاً على نحو ما فعلته في العراق تدميراً ثم احتلالاً من أجل وضع اليد بالكامل على نفط منطقة الخليج، وبحيث يكون وجودها في الخليج ثم في ايران على نحو ما يشير المخطط بديلاً أقل استفزازاً لروسيا من الوجود في قلب القوفاز. وتبقى الملاحظة الثالثة التي تكمل سابقتيها وتتعلق بأسلوب التغيير الذي لم يلجأ إليه العراقيون على نحو ما فعل الجورجيون ومن قبلهم بتسع وثلاثين سنة السودانيون. وهم لم يفعلوا لأن الإدارة البوشية لم تشجع ذلك لأنها تريد احتلالاً ولا تتطلع إلى تغيير. ومن يتأمل في الوقائع منذ الشهرين اللذين سبقا الخميس 2 اغسطس (آب) 1990 يوم غزوة الكويت وصولاً إلى الآن وحتى إشعار آخر يتأكد له ذلك.

وعلى الهامش والملاحظات الثلاث طرفة ينطبق عليها القول الشائع «شر البلية ما يُضحك» وتتلخص في أن رئيسة المرحلة المؤقتة لجورجيا ستطالب الإدارة الأميركية بخمسة ملايين دولار لإجراء انتخابات رئاسية جديدة.. وهو ما لم يفعله السودانيون عندما أنهوا الحكم العسكري الأول مع أن حالتهم المالية كانت أكثر سوءاً بكثير من حال الجورجيين الذين اقتبسوا منهم أسلوب التغيير على أهون سبيل.