الإنسان أولاً... فالإنسانية صنو الدين

TT

حين ينتفي الحب ومشاعر التسامح من القلوب، فإن الإنسانية لا تعود هي بوصلة الاتجاه، ويصبح كل شيء ممكنا، وكل شيء جائزا، وكل شيء مبررا، حتى باسم ذات الحب وباسم ذات التسامح والإنسانية. جرائم كثيرة وكبيرة على مر العصور ارتكبت باسم أجمل المبادئ وأجل القيم، وهي بريئة كل البراءة من تلك الجرائم. فلا يمكن أن تكون الجريمة مبررة تحت أي مسمى جميل، أو من أجل تحقيق غاية نبيلة، حتى وإن قيل ذلك. نعم قد تأخذ الأمور مساراً محموداً بعد هذه الجريمة التاريخية أو تلك، ولكن الفضل في ذلك لا يعود لذات الجريمة، ولكن كنوع من التكفير عن تلك الجريمة. فالجريمة تبقى جريمة تحت أي مسمى، وبأي لون اتصفت.

هناك بعض أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية، فقد مورست تحت راية الدين وباسم الرحمن الرحيم، والدين من كل ذلك براء، فلا يمكن أن يكون الدين مناقضاً للقيم الجميلة في الحياة، فالله جمال وعدل ومحبة وتسامح، وليس سوطاً من عذاب مسلطاً على كل من عجنت يده، حتى وإن أراد البعض أن يجعله كذلك. فجوهر الدين، أي دين وكل دين حين يبقى الدين ديناً، هو الحب والرحمة وتلك العلاقة المنسية من التسامح بين الإنسان وأخيه الإنسان. وكما أن الحب والرحمة والتسامح هي جوهر الإنسانية، بمثل ما أن الإنسانية هي مزيج كل ذلك، فإن ذلك كله يمثل جوهر الدين حين يكون نابعاً من القلوب، كما بشر به الأنبياء والرسل، وكما فهمه عظماء الإنسانية وبسطاء القلوب من الناس، لا كما سار به التاريخ وترجمته أهواء البشر ومصالح الخلق الضيقة، الآني منها والبعيد. هذا الجوهر في الدين هو الذي يُنسى على مر التاريخ، ولا يبقي البعض من الدين إلا نصوصاً أفرغت من معناها، أو رجالاً فقدوا مكامن الإنسان في ذواتهم، أو مؤسسات فقدت بوصلة الاتجاه، وهنا تكمن كارثة الإنسان في كل مكان.

ففي الماضي مثلاً، استخدم الرومان الدين واجهة ومبرراً لقتل المسيحيين دون رحمة، وهم من كان ينادي بالمحبة والتسامح ودين الإنسان. ولم يلبث الرومان، ومن بعدهم الأوروبيون، أن استخدموا ذات المسيحية المضطهدة، دين المحبة والرحمة والتسامح المطلق، واجهة لنزع الرحمة من القلوب، وسفك الدم الحرام على مذابح الرب، والرب من كل ذلك براء. وكان الفريسيون من اليهود أيام المسيح عليه السلام، يأخذون بنصوص التوراة بدون أن ينفذوا إلى روحها، فكانوا الأكثر تديناً بين اليهود، رغم أنهم في حقيقة الأمر لا يمتون إلى الدين بأي صلة. هؤلاء الفريسيون هم من وشى بمكان المسيح ليلة القبض عليه، ومن ثم صلبه في الرواية المسيحية، أو رفعه كما يخبرنا القرآن الكريم. وهؤلاء الفريسيون هم من كانوا أعداء رسالة المحبة والسلام التي كان ينادي بها المسيح، وهم أصحاب السبت الذين مسخوا قردة خاسئين، رغم أنهم كانوا لا يخالفون النصوص قيد أنملة. واليوم ها هو الدور يأتينا، وإن كان قد اتانا من قبل، فيقوم رجال باسم الدين، وتحت ظل راية الرب الرحمن الرحيم، بتدمير كل ما هو جميل وأصيل وجوهري في الدين. الدماء تُسفك، والنساء ترمل، والأطفال ييتمون، والرؤوس تجز وتحز، وعمارة الأرض تُدمر، باسم جنة عالية يدعي هؤلاء زورا انهم يتسابقون اليها، وكأن الدم والدمار هو مهر تلك الجنة، وهم في كل ذلك عن الحقيقة غافلون، بعد أن اسودت منهم القلوب، فما عاد للنور منفذ وسط كل ذلك الديجور. فالجنة أعدت للمتقين، والتقوى محلها القلب، ولا تقوى مع دياجير النفس والعنف والقسوة واسترخاص الدم الغالي في عين فاطره ومجريه في العروق. فإذا كانت الدنيا وما احتوت لا تساوي في نظر الكريم قطرة دم واحدة مسفوكة بغير حق، فكيف يكون الدم هو ما يرضي الرب ويكون مهراً لجنة عالية، لا تسمع فيها لاغية، ربما لو كانت بيد هؤلاء، ممن انتزعت المحبة من قلوبهم، وانتفت الإنسانية من سلوكهم، ما ادخلو إليها أحداً من خلق خالق الخلق.

قيل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم،: «أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد». وفي حديث آخر، قال الرسول الكريم: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقض ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار». العلاقة الإنسانية، ومشاعر الرحمة والحب والتسامح هي جوهر الإنسان، والتي لا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً بدونها. والإنسانية صنو الدين، وبالتالي فإن من لا مشاعر من إنسانية غامرة تملأ شغاف قلبه، فإن الدين منه براء، حتى لو كان من أشد المتدينين في ظاهره. فالدين في النهاية هو أن يكون الله مستقراً في القلوب، ومن كان الحق المطلق، والجمال المطلق، والحب المطلق مستقراً في قلبه، فإنه لا يمكن أن يرى حيواناً يتألم، فكيف بإنسان يراق دمه، وهو أكرم مخلوقات الخالق على الخالق، منذ أن نُفخت الروح الإلهية في تجاويف الجسد الآدمي.

ورد في الأثر أن بغياً دخلت الجنة بسبب كلب كاد أن يموت عطشاً أسقته، ودخلت امرأة النار بسبب هرة حبستها فهلكت، فلا هي التي أطعمتها، ولا هي التي تركتها حرة تبحث عن رزقها في خشاش الأرض. دخلت إحدى المرأتين الجنة رغم كل ذنوبها وخطاياها الظاهرة، فقد كان قلبها عامراً بالرحمة والحب والحنان، فيما لم تنتفع الأخرى من تقواها الظاهرة، فقد كان قلبها كالحجارة أو أشد قسوة، فدخلت النار بسبب هرة لا قيمة لها في عين تلك المرأة، وهي لا تدرك كم كانت قيمة تلك الروح في عين خالقها، حين نزعت الرحمة من قلبها، فنزعت بذلك الإنسان من داخلها، ومن ثم العروة الوثقى مع الرحمن الرحيم، فلم تعد في النهاية إلا شيئاً من جماد لا إحساس فيه، وبذلك استحقت أن تكون مجرد جمرة من جمرات نار تتلظى، كما كان ذات وضعها في الحياة الدنيا، فمن لا يرحم لا يُرحم، ومن كان عديم الإحساس في الدنيا، فهو لا يستحق جنة تقوم على الإحساس بالحب والخير والجمال في الآخرة. وبذات هذا المعنى، يروي الفيلسوف الهندي راما كريشنا (1836 - 1886) قصة مشابهة في مغزاها. يقول كريشنا: كان هناك رجل متنسك يقضي نهاره كل يوم تحت ظل شجرة يُعلم الناس الفضيلة والتقوى. كما أنه كان يعيش حياة زهد فلا يشرب إلا الحليب ولا يأكل سوى الثمار. وكان يعتقد بينه وبين نفسه أنه بهذا الأسلوب من الحياة الذي ينتهجه قد بلغ حداً كبيراً من القداسة والكمال. وكانت امرأة مومس تعيش معه في نفس القرية وقد اتخذت من الزنى مهنة تكسب منها قوتها اليومي، فكان الناسك يأتي إليها كل يوم ويؤنبها على سلوكها المتهور ويحذرها من أن مصيرها في النهاية إلى جهنم، فكانت المسكينة بعد انصرافه تذرف الدموع وتبتهل إلى الله طالبة منه أن يخلصها من هذه الحياة التعيسة التي اضطرتها ظروف فقرها لأن تحياها. وبعد ردح من الزمن توفي الرجل الناسك والمرأة الزانية، فحضرت الملائكة لتأخذ المرأة إلى الجنة، والناسك إلى جهنم. فاحتج الناسك على هذا التصرف المجحف وخاطب الملائكة بحدة قائلاً: كيف تصنعون بي هذا؟! ألم أقض حياتي وأنا أُعلم الناس الطهارة واجتناب الخطيئة. فبأي منطق أساق أنا إلى النار بينما تُقاد هذه المرأة الخاطئة إلى الجنة؟! فأجابته الملائكة: صحيح أن هذه المرأة قضت حياتها في الخطيئة، ولكنها كانت تتجه دائماً إلى الله طالبة منه الخلاص مما هي فيه. وها هي الآن قد حصلت على ما كانت تطلبه. أما أنت فقد قضيت حياتك وأفكارك متجهة دائماً نحو خطايا الآخرين، فكنت لا ترى أمامك سوى الخطيئة، لذلك جئنا لنأخذك إلى المكان المخصص للذين لا يرون سوى الخطيئة..

الحكمة واحدة في أي مكان وكل زمان، إذا كانت الحكمة هي الغاية، بعيداً عن أهواء الذات وعصبيات الجماعة وأسر المذهبيات. فما يقوله كريشنا وغيره من أناس كانت الحكمة الخالصة غايتهم، هو ذاته ما تقوله الأديان وفلسفات الإنسان في كل زمان ومكان. وعندما يكون الإنسان إنساناً من داخله، أي أن الرحمن قد هيمن على كل قلبه، فإن النتائج لا تختلف، فجوهر الإنسان واحد منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها، ولكن هناك من يطمس كل ذلك فلا يرى رغم أنه يرى. فالناسك في القصة السابقة غرته نفسه، وأعتقد أنه أقرب إلى الله من تلك المومس الخاطئة المنكسرة الفؤاد، فظن أن الجنة ملك يمينه، غير عالم بأن معايير الرب غير معايير البشر، وإن ادعى البعض معرفة مطلقة بتلك المعايير، فكانت النار مصيره رغم النسك. فلقد كان زاهداً في دنياه، ورعاً في تقواه، ولكن نفسه كانت أكبر من الدنيا كلها كبراً وغروراً، فلم يفده الظاهر حين أصبح في حالة تناقض مع الباطن. وفي هذا المعنى يقول ابن قيم الجوزية: «رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً فأدخلت صاحبها الجنة، ورب طاعة أورثت صاحبها عجباً وكبراً فأدخلته النار». ومن الأقوال المأثورة لعلي بن أبي طالب في هذا الشأن: «يا عبد الله: لا تعجل في عيب أحد بذنب فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذب عليه». وفي حديث شريف للمصطفى عليه السلام: «شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره». نعم.. شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره.. هنا يكمن المعنى..وهنا تكمن حقيقة التقوى.. الخير والحب والجمال.. وشر الناس من هجرت هذه القيم روحه، وتركت قلبه قطعة من ليل مدلهم السواد لا فجر بعده..