عمـلٌ لم يبـدأ بعـد

TT

في زحمة الأخبار عن مبادرات سلام وأفكار وتصريحات لم تخفف بعد من حجم وكثافة العمليات الاستيطانية ولا من معاناة شعب فلسطيني وعراقي، استرعى انتباهي تصريح الرئيس بوش أنه مهتم بلقاء مؤسسة الفكر العربي في بيروت، وأنه على الرغم من عدم تمكنه من الحضور، فإنه سوف يتابع النقاش حول المستقبل العربي! وفي اليوم ذاته عبّر الرئيس بوش أيضاً، عن دعمه للقاء وزير خارجيته كولن باول في لندن مع واضعي وثيقة جنيف، الوزيرين السابقين، الفلسطيني ياسر عبد ربه، والإسرائيلي يوسي بيلين، وهنا يجدر التوقف عند تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض، لأنه يشكّل مدخلاً للفكرة التي سوف يعالجها هذا المقال: قال سكوت مكليلان، المتحدث باسم البيت الأبيض: «إن الرئيس يقدّر العمل الذي يقوم به وزير الخارجية، ويدرك أهمية أن يجتمع الوزير مع أشخاص متنوعين لديهم وجهات نظر قد تكون أو لا تكون مفيدة في دفع جهودنا في الشرق الأوسط قدماً». وللذين يشعرون بالنشوة والتفاؤل كلما ذكر الرئيس بوش مبادرة أو جهداً أو وافق على اللقاء، أقول ان هذا التصريح يُري أن الرئيس بوش لا يضيره إذا التقى وزير خارجيته بأشخاص، وأنه سوف يرى ما إذا كانت وجهات نظرهم مفيدة أم لا. ولكنّ السؤال الجوهري هو «مفيدة لمن؟». دون شك، إن الرئيس بوش يتحدث عما هو مفيد لاستراتيجياته وخططه ورؤيته، والمشكلة أن البعض يقع تحت وهم أنه يتحدث عما هو مفيد للعرب أو للمنطقة أو للفلسطينيين. وكذلك الأمر بالنسبة لمتابعة النقاش حول المستقبل العربي، فهل المستقبل العربي الذي يريده الآخرون لنا هو المستقبل العربي الذي نريده لأنفسنا؟ وهل حكم الآخر على ما نقول أو نفعل هو المرجعية التي يجب أن توجّه أفعالنا وأقوالنا وتوجهاتنا، أم لا بد من أن تكون لدينا رؤيتنا واستراتيجيتنا وخططنا، وأن نتعامل مع كلّ الآخرين وكلّ الأشياء التي تطرح علينا وفق هذه الاستراتيجية والخطة والمرجعية؟

لقد برهن بيان السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم، أنه لا يوجد أصدقاء دائمون أو حلفاء دائمون، بل إن الجميع يتبدل وتتغير مواقفه وفق ما ترغب دولة عظمى أن تحققه، ليس داخل بلادها وإنما في العالم برمته. كما برهنت التجارب أيضاً أن تقديم الخدمات والتنازلات لا يقدّم حماية لأحد خاصة إذا تعارضت أهداف ومسار المخطط الاستراتيجي مع أي تحالف أو صداقة، والأمثلة أكثر من أن تحصى.

لقد قام وزير الخارجية السابق ادوارد شيفردنادزه بنزع سلاح اوكرانيا النووي وسلّم أسلحة جورجيا، وبذلك قدّم خدمة جليلة للولايات المتحدة. لكن هذا ليس ضمانة له للبقاء، والضمانة الوحيدة التي كان يمكن أن تساعده وتساعد شعبه هي الاستراتيجية الخاصة به والتي تستهدف إنقاذ شعبه وأمته والإرتقاء بهم. وكذلك ظنّ صدام حسين، لأنه خاض حرباً ضد إيران وقدّم بذلك خدمات جليلة للولايات المتحدة، أنه أصبح صديقا ابديا لواشنطن. وأنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تنسى له هذا الجميل أو أن تضحي به. ومنذ سنوات وأعضاء كونغرس أمريكيون ومسؤولو مراكز أبحاث يعتمدون، إلى حدّ كبير، على سخاء عطاءات عربية من أموال وخدمات، ولكن هؤلاء أنفسهم اليوم يقودون الحملات العدائية ضد دول عربية كانت تعتبر نفسها الحليف والصديق للقوة الأعظم.

إنه لأمر طبيعي بالفعل أن يكون للقوى العظمى مخططات استراتيجية كونية لا علاقة لها بالحسابات التفصيلية الصغيرة وبطموحات هذا البلد أو ذاك، ولا علاقة لها أيضاً باعتراضات هذا البلد أو موافقة ذاك البلد، لأنها تنطلق من أهدافها هي ومن مخططاتها المبنية على أساس حماية مصالحها، خاصة ازدهار مجتمعاتها، وتعتبر أن الآخرين مرغمون على أن يقوموا بدورهم المطلوب لتنفيذ أهدافها بفعل قواها الضاربة، وأنه لا خيار لهم سوى أن يقوموا بذلك الدور. ولذلك ففي العمل السياسي ليس من الأهمية بمكان أن يقدّم بلد ما أو شعب ما تنازلاً أو يستجيب لمطالب قوة عظمى، ولكن المهم هو أن يتعرّف على المخطط الاستراتيجي لهذه القوة، وأن يتحقّق من أهدافها، وأن يعرف كيف يدير علاقته معها بشكل يحقق أهداف بلده وشعبه. أي أن المهم في العمل السياسي هو الإمساك بأوراق ذات أهمية لمخططات القوة العظمى وتركيز الحوار أو التفاوض عليها. والقوى العظمى دائماً وعبر التاريخ مستعدة أن تساوم لتحقيق أغراضها، ولكنّ مسألة الوفاء أو الأخلاق أو العرفان بالجميل، تقع خارج هذه الحسابات السياسية. والأحداث الأخيرة والعلاقات المتذبذبة في العام الماضي بين الولايات المتحدة من جهة والدول الأوروبية من جهة أخرى، يمكن فهمها أيضاً ضمن هذا المنظور. فقد كانت الولايات المتحدة نفسها حتى وقت قريب، تعتقد أنها، ولأنها ساعدت أوروبا في الحرب العالمية الثانية، لا يمكن لأوروبا أن تخرج عن الخطّ السياسي الذي ترتئيه الولايات المتحدة. وطبعاً لم يكن ليخطر ببال أميركي، قبل سنتين، أن أوروبا يمكن أن تقف في وجه ما تريد الولايات المتحدة القيام به. ولكنّ الحرب على العراق قد أخرجت إلى النور حقيقة أن أوروبا كقوة سياسية موحدة وصاعدة تضع اليوم مخططاتها واستراتيجياتها الكونية الخاصة بها، ومستعدة أن تختلف مع الولايات المتحدة، وأن تقف في وجهها إذا ما لمست تناقضاً بين هذه الاستراتيجيات وبين ما هو المطلوب منها أمريكياً. وحتى في العلاقة الأوروبية مع الولايات المتحدة أو دول أخرى كروسيا والصين، تتمّ ممارسة السياسة على قاعدة عدم وجود أصدقاء دائمين أو حلفاء دائمين.

وتوجّه مشابه يتبلور اليوم في دول أمريكا الجنوبية حيث تسعى هذه الدول إلى تشكيل كتلة إقليمية وإلى إثارة وعي أهل البلاد الى أن ما تريده منهم الولايات المتحدة لا ينسجم بالضرورة مع مصالح البلاد وشعوبها وأنهم لا بدّ من أن يبلوروا استراتيجية خاصة بهم تنطلق من إدراكهم للواقع ومن تحديد توجهاتهم المستقبلية وطموحاتهم والخطوات المدروسة للتوصل إلى هذه الأهداف. لذلك نرى اليوم في دول أمريكا اللاتينية تحركات غير تقليدية لا تنسجم بالضرورة مع ما هو مطلوب من هذه الدول لأنها تنطلق وفق رؤية واستراتيجية يتمركز محورها في قلب أمريكا الجنوبية نفسها وتمتد آفاقها لمستقبل مرسوم لشعوب هذه البلدان ومستقبل أبنائها.

أما نحن اليوم في العالم العربي، فما زالت معظم الدول العربية مشغولة بجدول أعمال ابتكره آخرون، مثل وثيقة جنيف أو حوار فلسطيني- فلسطيني، أو زيارة باول للمغرب وتليها زيارة شيراك في احتدام واضح على نفوذ مستقبلي هنا وهناك، بينما يستمر قتل الأطفال وأمهاتهم وإذلال الرجال في العراق وفلسطين باعتقالهم ووضع الأكياس فوق رؤوسهم، ومداهمة بيوتهم ليلاً وهدمها نهاراً، وبناء جدار فاصل، والإجهاز على حقوق الإنسان العربي في كل مكان، وذلك لأن محاولة فهم استراتيجيات الآخرين لم تبدأ بعد، أما وضع استراتيجية عربية تركّز على المستقبل وعلى أهداف وطموحات هذه الأمة وتتعامل مع كل ما يريده الآخرون منها من خلال هذه الاستراتيجية والرؤية الواضحة، فهو عمل لم يبدأ بعد، ولا بد أن يبدأ العمل المطلوب لاستشراف المستقبل العربي.

*كاتبة سورية