من ساواك بنفسه.. ما ظَلَم

TT

نتيجة الانتخابات البرلمانية الاخيرة في اقليم آيرلندا الشمالية البريطاني، في أواخر الشهر الفائت، اعادت البحث المضني عن السلام في الاقليم المنشود الى نقطة البداية.

فقد انتصر في هذه الانتخابات كما هو معروف الحزبان المتشددان في المعسكرين البروتستانتي والكاثوليكي. بل ان الحزب البروتستانتي المتشدد، وهو الحزب الديمقراطي الوحدوي بزعامة القس ايان بيزلي، معارض علني لاتفاقية السلام الايرلندية الموقعة قبل بضع سنين والمعروفة باسم «اتفاقية الجمعة الحزينة».

كيف تبخر فجأة التفاؤل الضخم بالسلام وانتهى الاقليم المضطرب مجددا في خندق التعصب.. والتعصب المضاد؟

وكيف تاهت خطوات الحكومة البريطانية الحالية عن سكة السلام بعدما كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه؟

الواقع ان الحكومة العمالية ـ أو بالأصح «النيو ـ عمالية» ـ في لندن بدأت عهدها عام 1997 بخطوات شجاعة تستحق التقدير تحت قيادة وزيرة شؤون ايرلندا الشمالية يومذاك الدكتورة مارجوري مولام. وكان جانب اساسي من منطلقات مولام ومقاربتها للحل اعادة لندن الى موقع «الحَكَم» (بفتح الحاء والكاف) بين الجانبين البروتستانتي والكاثوليكي بعدما نظر اليها الكاثوليك الجمهوريون طويلا على أنها شريك وحليف للبروتستانت الرافعين لواء الوحدة الكاملة مع بريطانيا.

هذا المنطلق الموضوعي المحايد والمنفتح والناشط في آن معا شجع الجمهوريين الكاثوليك على ابداء مرونة غير مسبوقة في تعاطيهم مع لندن رغم الارث الثقيل من انعدام الثقة والكراهية. وكانت مشاعر الكراهية وانعدام الثقة قد بلغت ذروتها ايام حكم مارغريت ثاتشر منذ نهاية عقد السبعينات حتى نهاية التسعينات، لا سيما بعد وفاة عدد من المساجين السياسيين الكاثوليك الذين اضربوا عن الطعام بقيادة النائب في مجلس العموم بوبي ساندز من دون ان تتزحزح ثاتشر قيد أنملة عن اصرارها على معاملتهم كأي سجناء من المجرمين العاديين.

مسلك ثاتشر على ما فيه من تشدد كان، مع ذلك، منسجما مع الموقف المبدئي لحزب المحافظين الذي رفض تاريخيا تقديم تنازلات للجمهوريين الكاثوليك، والذي اصر وما زال على اعتبار ايرلندا الشمالية جزءاً لا يتجزأ من المملكة المتحدة.

في المقابل، قامت أولويات حزب العمال على حق تقرير المصير واحترام حقوق الاقليات برغم الالتزام الكامل بالديمقراطية. وشكل هذا التوازن بين احترام حقوق الاقلية الكاثوليكية والالتزام بالديمقراطية التي تبقي للأكثرية البروتستانتية الغلبة العددية في ايجاد برلمان تمثيلي للاقليم ركيزة مقاربة مولام.. وفق مبدأ «لا يموت الذئب.. ولا يفنى الغنم».

وبطبيعة الحال جوبهت مولام بالكثير من المعارضة في صفوف شراذم القوى المتطرفة في الجانبين البروتستانتي والكاثوليكي. ولفترة من الوقت نجحت في لجم المتطرفين وتعطيل مؤامراتهم.

الا ان احجام توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني، عن مواصلة دعم مولام، وميله الى العودة الى مسايرة البروتستانت ـ ومنها سكوته على استمرار المسيرات التقليدية الموسمية للبروتستانت داخل احياء الكاثوليك، واستمرار العمليات التخريبية من قبل شراذم كاثوليكية عاصية ـ اديا الى احراج مولام ومن ثم اخراجها من الحكومة.

وبالتالي أدى رضوخ بلير للابتزاز من قبل المتطرفين الى كشف حقيقة انعدام التزامه بأي استراتيجية مبدئية للحل.

وهكذا لم يكن مستغربا ان يزداد الشعور باليأس والخوف المتبادل، وان يهرع مزيد من مواطني الاقليم الى احضان الاحزاب المتطرفة الكفيلة بحمايتهم بقوة السلاح.

هذا الموقف اللامبدئي ذاته لمسه الشارع العربي من المستر بلير في تعاطيه مع معظم قضاياه. فهو رغم ادعائه في كل مناسبة انه على مسافة واحدة من قطبي النزاع العربي الاسرائيلي، فإنه اختار ضمن بطانته مستشارين واعوانا يعدون من اخلص حلفاء اسرائيل، ولما بدأ التحضير لحرب العراق ظهر جليا من تحمسه للحرب ان للندن ـ عمالية كانت أو محافظة ـ معيارا للتعامل مع العرب ومعيارا آخر مغايرا تماما للتعامل مع اسرائيل.

الطريف ان معظم الساسة البريطانيين يكررون في كل مناسبة ان سياسة بريطانيا نحو الشرق الاوسط «مستقلة» عن الموقف الاميركي، لكن كل الاحداث الاقليمية منذ 1956 اثبتت انه لم يعد للندن سياسة اقليمية مختلفة عن سياسة واشنطن، ولا سياسة لواشنطن مختلفة عن سياسة تل أبيب.

كلمة أخيرة: في ضوء ما تقدم عرضه، هل تُلام لندن ـ توني بلير بالخصوص على سلبيتها ازاء العالم العربي؟

ان تخبطها في ازمتها الخاصة، اي الازمة الآيرلندية، كشف الكثير. وانعدام مبدئيتها في هذه الازمة التي تمسها اكثر من اي ازمة أخرى.. يبرهن لنا صحة القول المأثور: «من ساواك بنفسه.. فما ظلم».