خريطة طريق الوثيقة

TT

يمثل الوزير ياسر عبد ربه الرئيس ياسر عرفات على نحو غامض وبلا تفويض معلن. وهذا الغموض جزء من استراتيجية ابو عمار، وليس فقط من سياسته. فهو لا يدخل الى مكان الا ويترك باب الخروج مفتوحاً. وفي كل المفاوضات الرسمية او غير الرسمية مع اسرائيل، او مع اسرائيليين، دفع بممثليه الى الامام وابقى مباركته معلقة في انتظار النتائج ومعرفة مدى تجاوب التيار الفلسطيني الرئيسي.

في كل الحالات، يمثل ياسر عبد ربه في القرار الفلسطيني الرسمي اكثر بكثير مما يمثل يوسي بيلين في القرار الاسرائيلي. لكن بيلين يمثل في التيار او الاتجاه السلمي اكثر مما يمثل عبد ربه الذي جاء الى كنف عرفات من الجبهة الديمقراطية التي ذابت معه في «فتح». وكل من هو في كنف ابو عمار او في ظله لا يستطيع الخروج الى اي تيار شعبي مستقل عنه. وكانت تجربة ابو مازن «الدرس الاخير»، كما في عنوان شهير للأديب الفرنسي الفونس دوديه في وداع السنة الدراسية كلها.

اذن ما هي قيمة «وثيقة جنيف» وما هي اهميتها؟ لست استطيع الحكم على الوثيقة في حد ذاتها، لأنني لم اقرأها. ومن قبلها قرأت «خريطة الطريق» التي وضعتها ادارة بوش، كمن يقرأ عناوين الصحف في اكشاك المترو بانتظار وصول القطار. فلم اكن في يوم معتقداً بأن التسوية سهلة او السلام ممكن. لكنني في مرحلة كلنتون ـ رابين شعرت ان التسوية محتملة، مضافاً اليها حل مدريد. وعندما قتل اسحق رابين وانتخب الاسرائيليون بنيامين نتانياهو باكثرية 20 الف صوت هي اصوات المحكومين واللصوص في السجون، ادركت ان التسوية قد طارت الى زمن آخر. ذلك ان نتانياهو الذي رقص جماعته ساعة فوزه مهللين «انه ملك اسرائيل»، ليس وليد السياسة الاسرائيلية وحدها، بل هو ربيب او نتاج فكر اميركي مريض، يتزعمه المستر ريتشارد بيرل، ويرى المسألة في حل واحد: كل من ليس معنا يجب ان يكون تحت الارض.

ظللت اعتقد، او آمل، ان ينتخب الاسرائيليون خلفاً آخر لرابين ذات يوم. ولكن عندما ارسل ايهود باراك 2000 جندي لحراسة ارييل شارون في «زيارة» الى المسجد الاقصى عشية الانتخابات، ادركت ان الذين اطلقوا الرصاص على ظهر رابين بدأوا في اطلاق المدافع على جثته. ومن يومها قررت الا اضيع الوقت في قراءة اي شيء له علاقة بالتسوية، سواء كان صادراً عن مكتب جورج بوش وخريطة الطريق، او عن رجلين يمثلان، وسط هذه الجثث والحرائق وبرك الدماء، مجرد حنين رومانسي الى مستقبل افتراضي، يقف في وجهه جدار شاهق من شهوة القتل وحضارة الموت.

كتب يوري افنيري في «لندن ريفيو اوف بوكس» وصف ليلة امضاها مع بعض ناشطي السلام، في مقر المقاطعة في رام الله. وقال انهم في كل لحظة كانوا ينتظرون هجوم الدبابات الاسرائيلية على جدران ابو عمار ومن معه. ومنذ ان بدأت عملي الصحافي وانا اقرأ يوري افنيري وكتاباته عن السلام والمصالحة. ولا أشك لحظة في ان هذا الناشط الالماني الذي بدأ حياته ميكانيكياً في اسرائيل، من المؤمنين حقاً بالسلام. فقد شاخ ولم ييأس بعد. ولا يزال يوسي بيلين شاباً. واكاد اتخيله معتصماً في مقر«المقاطعة» بعد اربعين عاماً، ومعه «وثيقة جنيف»، ومقالات يوري افنيري وعاموس اوز، وفي الخارج دبابات عومري شارون او ابنه ارييل. لقد كان مجيء نتانياهو بالانتخاب الشعبي، بداية زمن آخر.