على القارعة

TT

لا تخلو منهم مهنة في الارض. ولا فئة ولا طبقة، ولا زمن، يلازمون الحياة منذ عصرها الحجري، ومنذ عصرها الاول. لكنهم يظلون طوال الازمنة والعصور على القارعة، لا يسلكون الدرب ولا يعرفون الطريق، يتفرجون على السالكين والدائبين والناجحين، ويرشقونهم بالحجارة. يراقبون الاثرياء ويقفون على اعتابهم، ولا يفعلون شيئاً ولا يبذلون جهداً ولا يضعون حجراً في مكانه. ولا حتى حصاة. ولا يؤاسون فقيراً ولا يقفون على خاطر حزين. بعضهم يفوق حسده موهبته ومقدرته وطاقاته. وبعضهم بلا موهبة بل حسد وحقد. ولكنهم يلتقون جميعاً على رصيف واحد. رصيف الخمول والرشق. يمضون العمر وهم يحاولون ان يكونوا شيئاً واحداً: عقبة او معوقة. ولا مرة يجهدون او يحاولون ان يكونوا شيئاً في ذاته. يريدون ان تهطل السماء نجاحاً عليهم وفشلاً على الآخرين. ويعتقدون صادقين، مثل كل خامل، انهم يستحقون كل شيء وان نجاح الآخرين باطل. ويمضون العمر يمضغون ويلوكون، ويفترون، ويقتاتون من اعصابهم ومن عضلهم. والقافلة تمشي وتتقدم. وهم على القارعة. لا وقت لديهم لان يفكروا في انفسهم ولا مشاعر لديهم من اجل ان يفكروا في اولادهم واصدقائهم. لا وقت سوى ان يحسدوا وينمّوا ويتقلبوا غيظا، والقافلة تتقدم.

والمرء يفهم ويتفهم معدومي الموهبة. فهؤلاء يستحقون الشفقة والرثاء، لان رحلتهم في الحياة انعدام وعدم. لكن المؤسف هم اصحاب المواهب الضائعة. والمؤسف هم القادرون الذين ذوبوا حياتهم في اتون الحسد. وارهقوا طاقاتهم في الثرثرة والنميمة والاستعلاء الفارغ الذي يشبه المصران الغليظ. وكلما تأملت في ما اهرق هذا الصنف من فرص وعطاء وثقافة وزمن شعرت بحزن مقيم. فقد كنت اتمنى لهم اعلى المراتب لكنني لا البث ان اراهم يتزحلقون نحو الارض الواطئة. وكانوا يفعلون ذلك وهم يفرحون ويهزجون. ويتركون المرتفعات وهم يشتمونها ويتذمرون من طقوسها. ويمضون سعداء الى ارض واطئة تتطلع الى الناس من تحت وتحسدهم وتحقد عليهم، وتكابر بأنها على حق.

تبدو هذه الفئة من الناس، في كل مهنة او حقل او سهل، وكأن لعنة حلت عليها فسدت عليها منافس الطيب وحلاوة الرؤيا. فلا ترى خيراً في احد او خيراً في شيء. وعندها لكل نجاح تفسير ولكل حقد مبرر اخلاقي لا ينضب وافكر ببعض من مرّ في هؤلاء من مهنتي فأحزن حزناً دائماً. احزن على كل صاحب موهبة اختار طريق الخسارة. واحزن على كل ذي طاقة فتحت امامه كل الدروب فاختار رصيف الرشق والحسد. وقد اشفقت على احد هؤلاء اشفاقاً قلبياً صادقاً عندما كتب ينتقدني في كثرة ما اعمل. لقد انتبهت فجأة الى انني انا لا اعرف كيف اعمل، الى ان عدّد امامي وامام لجنة القراءة التي تتابعه، الصحف والاذاعات التي اكتب لها. وقد اضطررت الى ان ارسل اليه ملحقاً توضيحياً عن جهدي التلفزيوني ايضاً فهو لا يشاهد التلفزيونات كثيراً لانه في مثل هذا الوقت يكون في المقهى، حيث يتناول المجتهدين من الناس واحداً واحداً. وتبلغ سعادته ذروتها عندما يركب عليهم نكتة من ايام الولاية التركية الاولى. وبكل قلبي، وتحت القسم، كنت اتمنى له ان يكون في الطليعة على درب الكتاب والصحافيين والمثقفين. لكنه اختار القارعة وطناً نهائياً واقامة دائمة. واختار كلما خطرنا في باله ان يرشقنا وان يشتمنا. موهبة يمسك بها صاحبها ويضربها في الحائط كل يوم. ويكتب عن فشل الآخرين واخفاقاتهم وضعفهم، وهو الذي رفض كل نجاح قدم اليه. اما الفاشلون اولاً واخيراً فليسوا موضوعنا ولا موضوع احد، لا امس ولا غدا. حفظكم الله من العين الفارغة المتربصة على قارعة درب العمر الجميل.