الخياطون

TT

اذا كانت الحقيقة عند اميل زولا عابرة سبيل في القرن الماضي، فهي عند كتاب واعلاميي هذا الزمان قماشة مطواعة يفصلها كل حسب فهمه ومقاسه، وحسب «الموضة» ايضا، فأحيانا تكون الحقيقة عباءة تخفي كل ما تحتها، واحيانا «ميني جيب» مختصرا جدا يكشف ما لا يجوز الكشف عنه الا للحميم الرخيم.

وكل سياسي عنده خياط خصوصي للحقيقة يختصرها، او يمطها تمشيا مع مقتضيات الاحوال والمصالح، وخياطو الحقائق هم رجال الاعلام بمختلف وسائلهم المقروءة والمسموعة والمرئية والمفبركة والمدربة على اظهار الشيء وضده، فالسمين يمكن ان يصبح رشيقا، والقصير القزم لا يقتضي تحويله الى عملاق الا بضربة مقص وبضع قطب وخيطان ومشابك.

وللتعمق في فهم اساليب خياطي الحقائق لن اذهب الى الصحافة العربية، فهذه مكشوفة وليست «سوفستكيتد إنف» لتظهر براعة الخياط، لأن التعليمات عندها محددة ولا تستطيع ان تخالفها وإلا طارت اعناق وارزاق، لكني سآخذ المثال من الصحافة الغربية ليس في الاحداث الصغيرة والسياسات الاجتماعية، حيث تظهر البراعة الحقيقية، بل في حدث بارز يسهل من خلاله فهم آليات عمل الخياطين المعاصرين.

الحدث زيارة بوش لبريطانيا وهي الاولى منذ دهر والصحيفتان اللتان سنقرأ تغطيتهما له في يوم واحد (الجمعة 21 ـ 11 ـ 2003) هما «الغارديان» المحسوبة على اليسار والتيار المعادي لحرب العراق، و«ديلي تلغراف» ذات الميول اليمينية العريقة والتي تعبر اكثر من غيرها عن موقف الجيش الذي شارك في تلك الحرب.

سنترك الصفحة الاولى لأن تفجيرات استانبول احتلتها وحين تتعرض المصالح الوطنية لخطر من هذا النوع يتجمد عمل الخياطين، حيث يقل هامش المناورة لتعرية الحقيقة من ثيابها. اما الصفحات الداخلية ففيها الكثير عن الزيارة والمظاهرات الغاضبة التي استقبلت الرئيس الاميركي وعند هذا المفرق تظهر الحقيقة في كل جريدة مختلفة عن الاخرى، مع ان الحدث واحد واشخاصه لم يتغيروا.

«ديلي تلغراف» التي تريد التقليل من اهمية المظاهرات المعارضة للزيارة ذهبت الى قصة رجل ثري خرج مع المتظاهرين ووضعت المانشيت التالي على عرض الصفحة «مليونير في مسيرة الفوضويين» وبعده خبر داخلي عائم يلح منذ عنوانه على ان اعداد المشاركين اقل من المظاهرات السابقة، وطبعا غابت الصورة الاساسية لتحطيم تمثال بوش في ساحة الطرف الأغر بالطريقة ذاتها التي تم فيها تحطيم الزعيم العراقي المخلوع في بغداد في 9 ابريل ـ نيسان الماضي.

«الغارديان» وضعت الصورة المغيبة من تغطية زميلتها على ثلاثة ارباع الصفحة بعنوان «وسقط التمثال، ولكن هذه المرة في ترافلغار سكوير». وحول الصورة لقطات مصغرة للمظاهرة واحاديث مع الذين تظاهروا وهم يؤكدون انهم لا يستطيعون السكوت وترك الولايات المتحدة تلعب بأقدارهم ومستقبلهم.

ولتزيد في خياطتها «درزة اضافية» ألحقت الجد بالهزل بعنوان ساخر عن سيدة اميركا الاولى التي سألوها عن المتظاهرين فقالت: متظاهرون؟ أي متظاهرين؟ ويمكن فعلا ألا تكون قد رأتهم فمائة الف متظاهر واكثر يسهل اخفاؤهم عند من لا يريد ان يرى وعند من لا يريد ان ينقل ما رأى اخلاصا لايديولوجيا الخياطين الذين يوظفون دوما الجانب الذي يخدمهم من اي حدث مهما كبر او صغر، فالديلي تلغراف تفضل صورة الرئيس مع الطباخة نايجلا لوسون على مائة الف متظاهر لتعكس حقيقة اعلام الخياطة والطبيخ.

الحدث واحد والصورة مختلفة تماما وكذلك المحتوى في صحيفتين رصينتين شهيرتين احداهما الاكثر توزيعا، والثانية الاكثر احتراما، فأين يكمن الخلل؟

قديما قال الامام علي رضي الله عنه «لعن الله الحقيقة ما تركت لعلي صاحبا». والخياطون المعاصرون لا يريدون ان يخسروا اصحابهم ولا مصالحهم فيظل امامهم الهدف السهل وهو التضحية بالحقيقة التي تنهال عليها المقصات كل مساء وصباح تقصيرا وتشذيبا وتشهيلا و زركشة او تشويها حسب الطلب والسعر والمقاس.

صحيح ان يقال ان الحقيقة كالهرم يرى كل شخص الجانب الذي يقابله منه، لكن الاصح ان الباحث الحقيقي عن الحقيقة يفاضل ويقارن ويغربل ويحلل، ويستنتج، ولكن الذي يحصل في الاعلام المعاصر هو قفز كل طرف الى استثمار المعلومة التي تخدم مصالحه واهمال غيرها وبهذا الموقف الانتقائي تصبح الحقائق كالايتام على موائد اللئام مهملة وقصية ومنبوذة وليس لها من الصورة الكاملة للحدث الا بعض الفتات.

[email protected]