قصة حرب أعادت تشكيل رئيس..!

TT

ربما يصاب كل من استمع الى احاديث الرئيس بوش حول الحاجة الى تطوير الديموقراطية في العالمين العربي والاسلامي بالاعجاب والشك في ذات الوقت، أما الاعجاب فسببه أنه لا يوجد رئيس قبل بوش قد طرح الأمر بمثل هذه الهمة والنشاط، وأما الشك فلكون أن مثل هذا العمل من بناء الشعوب أو الدول هو عينه ما ازدراه بوش خلال حملته الانتخابية السابقة، ومن هنا يجيء السؤال: من أين أتت عاطفة بوش لجعل العالم العربي آمنا وديموقراطيا؟

وبرغم أن بوش قد أشار الى مثل هذا الطرح في وقت سابق، الا أنه لم يركز عليه في احاديثه العامة مع الأمة أو الكونغرس أو الأمم المتحدة في ثنايا تبريره لغزو العراق. لأنه وفي مكان ذلك، اعتمد بشكل رئيس على الحاجة الطارئة الى حرب وقائية تنزع من العراق اسلحته للدمار الشامل.

وقد يعتقد البعض من باب السخرية أن بوش إنما ظل وعلى الدوام راغبا فقط في نزع اسلحة الدمار الشامل تلك، ولكن، وفي غياب اكتشاف تلك الاسلحة الى حد ما الى الآن، ومع ارتفاع تكاليف الحرب في الأرواح والأموال، شعر الرئيس أنه في حاجة الى طرح أو منطق جديد. ومن هنا جاء تركيزه على مجادلة الديموقراطية.

ومع ذلك فهناك تفسير آخر، وهو تفسير لا يتعارض مع الذي سبق ذكره، ولكنه أكثر دعوة للسخرية، وتلك قصة عن الحرب والأحداث وكيف لهما أن يصنعا أو يشكلا أو يحولا رئيسا.

الى ذلك يجادل مايكل ساندل المنظر السياسي بجامعة هارفارد بالقول: «يحدث دائما أن يجد الرؤساء أنفسهم، وتحت ضغوط الأحداث، خاصة خلال الحروب، أنهم في حاجة الى تقديم طروحات جديدة أكثر حضورا ومنطقا لسياساتهم وخاصة حين يتعلق الأمر بتضحيات جسام تكون قد حدثت. وقد حدث هذا للرئيس لنكولن خلال الحرب الأهلية فيما كان عائد تلك الحرب هو معارضة الركود والابقاء على الاتحاد، ومن هنا جاء، ولكن فقط بعد معركة غيتسبيرج، اعلان لنكولن أن هدف الحرب الأهلية الكبير هو ليس فقط ابقاء الاتحاد وانما أيضا الحرية واستئصال الرق.

وكما قال لنكولن في خطاب غيتسبيرج وهو يؤسس لمقبرة الضحايا: نحن نقرر هنا وبقوة أن موت هؤلاء وجب ان لا يذهب هدرا، لأن على هذه الأمة وتحت عناية الله أن تمتلك مولدا جديدا للحرية.

ومن هنا، ومع حالة لنكولن فقد تحول منطق الحرب، لا لأنه لم يستطع أن يجد أسلحة دمار شامل في ديكسي، ولكن، وكما يجادل ساندل، بسبب ضخامة التضحية التي تطلبتها تلك الحرب، ومن هنا وجد لنكولن أنه لم يعد من المنطقي مواصلة الطرح السابق بأن كل تلك التضحية الضخمة انما كانت، وفقط، من أجل الابقاء على هذه الولايات معا، وانما وفي المقابل، من أجل هيكل سياسي، ومن هنا عليها أن تكون من أجل هدف أكبر وهو الحرية والمساواة.

والى ذلك يقول ساندل: خاض ويلسون تحولا مماثلا، فقد خاض حملة اعادة انتخابه عام 1916 رافعا شعار ابقاء البلاد خارج فوضى الحرب الاوروبية، ولكنه وفي الثاني من ابريل (نيسان) 1917 وقف ويلسون أمام جلسة مشتركة للكونغرس يبحث اعلان حرب ضد المانيا مصرا على أنه لا بد من جعل العالم آمنا للديموقراطية.

أما ما هومثير للسخرية هنا، يلاحظ ساندل، هو أن قرار بوش بالتركيز على أطروحة أو منطق الديموقراطية يضعه في مركب ويلسون، ذلك الرئيس الذي جعل من عالمية الحرية حجر الأساس في سياسته الخارجية فيما جاء بوش، الذي خاض حملة الرئاسة كواقعي صلب، يهدف الى بناء الأمة والمثالية في السياسة الخارجية، ليستشهد الآن بأقوال ويلسون ويتحدث عن الحاجة الى جعل الشرق الأوسط آمنا للديموقراطية. وكل ذلك يظهر كيف أن أعباء الأحداث مع السلطة والرئاسة يمكن لها أن تحول الرؤساء أو قل تعيد طرق طرحهم وتفكيرهم.

وعودة لي، فعلى الصعيد الشخصي، أنا جزئيا مع تركيز الرئيس بوش على جدلية الحرية والديموقراطية لانها وبالنسبة لي تشكل المنطق الأقوى للحرب على العراق.

ولكن السؤال هو الى أي حد استطاع بوش أن يعمق بجبهته الداخلية التركيز على اجندة الديموقراطية برحلتها الطويلة والى أي حد يستطيع أن يدفع بالاميركيين أن يتمسكوا بها، لأنك وحين تستمع الى بوش وهو يتحدث عنها فإنه يبدو مأخوذ العاطفة بها أقرب ما يكون الأمر عنده قناعة دينية.

ولكن، وعودة الى لنكولن، ففي الحقيقة كان قد كتب خطاب غيتسبيرج بنفسه فيما يكتب آخرون لبوش أحاديثه عن الديموقراطية، ولذلك فالمستقبل فقط هو الذي سيخبرنا ما اذا كان ارتباطه الحقيقي بهذه القضية نوعا من حب الظهور أو اتخاذها كحيلة، أو كليهما معا.

*خدمة «نيويورك تايمز»

عدد: 9141