بوش والعرب: «أسلمة» مشروع الديمقراطية الأميركي

TT

تفضل الأستاذ جمال البنا فأهداني منذ شهور كتيبا ورسائل ومقالات له عن رؤيته لإسلام معاصر. وخصوم الشقيق الأصغر للشيخ حسن البنا يتهمونه بأنه يحاول تقديم نفسه مفتيا لـ «الإسلام الأميركي». وفي الاتهام ظلم، فالرجل بلور رؤيته الجديدة المخالفة لرؤية شقيقه قبل أن تكتشف أميركا إسلام «العدالة والتنمية» في تركيا والمغرب، وقبل أن تعثر على الإسلام الشيعي في العراق.

لدى الإنجليز مثل شعبي يقول: If you Can Not Beat Them, Join Them (إذا لم تستطع أن تغلبهم، فانضمَّ إليهم). وتبدو البراغماتية السياسية الأميركية وكأنها على أهبة العمل به في العراق. لم تعثر حملة بوش الأثرية على أسلحة صدام الاستراتيجية، فقررت التنقيب عن «القوى السياسية الليبرالية» باسم الديمقراطية. ولما كانت هذه القوى قد اندثرت أصلا قبل اختفاء الأسلحة الاستراتيجية، فقد تعثرت أميركا بقوى الإسلام الشيعي الخارجة من مقابر صدام الجماعية.

يكتشف أصحاب الآيديولوجيا «المحافظة الجديدة» الذين برمجوا حملة بوش على العراق من معسكرهم في البنتاغون انهم لا يستطيعون تجاهل الإسلام الشيعي هناك، لذلك تزداد قناعتهم يوما بعد يوم بضم مشروعهم الديمقراطي إلى موجة «الأسلمة»، أو على الأقل مواكبتها ومسايرتها.

لكن عملية الضم أو الانضمام ليست هينة. ويتعين على سلطة الاحتلال الدخول في مساومة صعبة مع المرجعيات الدينية الشيعية في النصف الأول من العام المقبل، حول كمية «الأسلمة» في النظام الأساسي (الدستور المؤقت)، ثم في الدستور الدائم ونظام الحكم المنبثق عنه.

المساومة سوف تدور حول كيفية ولادة المجالس التشريعية المؤقتة والدائمة: هل تتم بالتعيين الذي تسميه سلطة بول بريمر، احتيالا، «الانتخاب غير المباشر»، أم بالاقتراع الشعبي الحر والمباشر الذي تلح عليه المرجعيات الدينية الشيعية؟ التعيين يجنب الأميركيين ولادة دولة دينية شيعية غير مقبولة لديهم ولدى السنة العرب والأكراد. أما الانتخاب فهو يضمن لهذه المرجعيات الهيمنة الروحية النافذة على سلطة الحكم، إن كان مستحيلا فرض نظام ديني تيوقراطي كما فعلت المرجعيات الدينية الحاكمة في إيران.

أحسب أن أمنية المشروع الديمقراطي الأميركي هي إنتاج حزب «عدالة وتنمية» إسلامي معتدل من خلال عملية المساومة. ولعلهم يستطيعون، في غضون العامين المقبلين وقبل إجراء انتخابات عامة وسن الدستور النهائي، استنساخ هذا الحزب من رحم تنظيم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الممثل في مجلس الحكم الانتقالي الذي أقامه الأميركيون، ويحظى بدعم المرجعيات الدينية الشيعية، ويقيم علاقات طيبة مع إيران، وغير مرفوض لدى الأكراد والعرب السنة.

إذا كان مقتدى الصدر يشكل في ناريته الشيعية وعدم نضج تجربته السياسية استحالة أميركية، فلعل الرهان الأميركي مرسوم منذ الآن على عبد العزيز الحكيم الذي خلف أخاه القتيل باقر في رئاسة التنظيم، وهو من الذكاء بحيث راح يتكيف مع المواصفات الأميركية لحزب «عدالة وتنمية» عراقي.

أود أن أنوه هنا بأن الدستور العراقي في شكله المؤقت أو الدائم يشكل تحديا هائلا لعراق ما بعد صدام ولسلطة الاحتلال وللقوى الدينية والعرقية والسياسية. إذا ما قبل الأميركيون بـ «أسلمة وسطية» هادئة ومعتدلة للدستور، وإذا ما فرض الأكراد الفيدرالية في النص، وإذا ما تم رد الاعتبار للعرب السنة، فالعراق عندئذ قابل للحياة كدولة موحدة، وإن كانت ضعيفة في المركز. لكن إذا أخفقت صياغة دستور بهذه المواصفات، فلا مفر من انكسار الجرة العراقية المشروخة أصلا وبعثرتها في دويلات ثلاث، بكل ما تنطوي عليه من فوضى وعدم استقرار في الخليج والمشرق العربي كله.

يبدو أن «أسلمة» مشروع الديمقراطية الأميركي ستنسحب أيضاً على مستوى الوطن العربي كله، إذا ما نجحت في العراق. غير أنها ما زالت مجرد هاجس لم يأخذ شكل دراسة علمية متكاملة في مراكز البحوث والدراسات (ثينك تانك) الأميركية.

مع ذلك، أستطيع أن أجمِّع هذه الهواجس في دلائل ومستمسكات مبكرة. هناك حوارات أميركية ديبلوماسية وفكرية تجرى مع تيارات إسلامية مختلفة في العالم العربي: ندوة معهد كارنيجي مع القوى الإسلامية التي اختيرت الكويت رواقا لها، للإيحاء بإمكانية استنساخ «إسلام خليجي وسطي». ثم هناك الحوارات والاتصالات الغامضة مع القوى الإسلامية، بما فيها القوى الإخوانية، في الأردن ومصر، والحاكمة والمعارضة في السودان، وأيضا مع التنظيم الإخواني السوري المهاجر إلى لندن الذي يستقطب تحت جناحه المعارضة السورية «العلمانية».

وهناك إلحاح الوزير باول خلال جولته المغربية الأخيرة على «انفتاح» الأنظمة الذي سوف يخدم بشكل وآخر إسلام «العدالة والتنمية» في المغرب، والأصولية الغنوشية المنفية من تونس، وأحزاب «الإسلام الجزائري المعتدل». وترافقت رحلة باول بتوبيخ المرشح الديمقراطي الرئاسي البارز جون كيري لإدارة بوش على تأخرها في اكتشاف الإسلام العربي «المعتدل».

هناك أيضا حملة إعلامية ونفسية على نظام مبارك لتحويل تعدديته الحزبية إلى «ديمقراطية المشاركة»، الأمر الذي سوف يستفيد منه جيل أصولي جديد خارج من رحم الجمودية الإخوانية التي ما زالت «رجعية» في الرؤية الأميركية.

في افتتاحه البرلمان الجديد، بشر الملك عبد الله الثاني بـ «دولة عربية إسلامية ديمقراطية»، ورفع شعارات إسلام وسطي في «العدل والمساواة والتنمية». وها هي حكومة فيصل الفايز الخارجة توا من مطبخ القصر الملكي تبادر إلى مصالحة الإخوان، ربما في محاولة لاستيلاد حزب «عدالة وتنمية» إسلامي.

في السودان، توشك الديبلوماسية الأميركية أن تنجح في وضع بصمات مسيحية قرنق الجنوبية على اتفاق مصالحة وتعايش مع نظام البشير الإسلامي. وها هي الأحزاب السودانية ذات المرجعيات الدينية تصالح نظام البشير/ قرنق. بل خرج الشيخ الترابي من السجن ليبشر بإسلام معتدل ومصالح، بعدما كان يهدد بأن «الإسلام الجهادي» سوف يكنس الأنظمة العربية «الكافرة».

لكن ما هو التفسير الذي أستطيع أن أقدمه «لأسلمة» مشروع الديمقراطية الأميركي؟ هناك أولا إعجاب أميركي بالغ بـ «الإسلام التركي» الحاكم. فقد تمكن الأطباء الأميركيون من استنساخ حزب «عدالة وتنمية» من رحم حزب الفضيلة والرفاه الشبيه بالحركات الاخوانية. حقق حزب الإسلام المعتدل نجاحا نسبيا خلال السنة الأولى من حكمه. فقد استوعب في صفوفه ليبراليين وإسلاميين وأكرادا، ولجم الفساد والتضخم، وقلم أظفار عسكر الكمالية، واعترف بحقوق الأكراد الثقافية. وضمن استقرارا سياسيا واجتماعيا، دون أن يبدو مرتميا تماما في أحضان الأميركان.

لا شك أن «أسلمة» المشروع الديمقراطي الأميركي تشكل خطرا على حاضر ومستقبل نظام «الأمر الواقع» العربي الذي يحاول تجاهل المتغيرات في المنطقة، مراهنا على عجز أميركا عن «تطويع» العراق وفرض ديمقراطيتها عليه.

النظام العربي لم يدرك بعد أهمية السماح بولادة قوى سياسية جديدة مستقلة عن هيمنته ووصايته، ومؤهلة لممارسة معارضة سلمية حقيقية، أو مؤهلة للمشاركة الديمقراطية في الحكم والسلطة. رفضُ النظام مبدأ تداول السلطة عبر الاقتراع الشعبي الحر، وتحنطه في قوالب نمطية لم تتغير منذ عقود، هما اللذان يدفعان الأميركيين في اتجاه «أسلمة» مشروعهم الديمقراطي بالتحالف مع قوى «إسلام الاعتدال».

لعل نظام مبارك هو أكثر أنظمة «الأمر الواقع» إدراكا وفهما للمتغيرات الأميركية في المنطقة. فها هو جيل مبارك الثاني يحاول ضخ ليبرالية جديدة في عروق حزب السلطة، وفرض إصلاح سياسي وإداري واقتصادي، ودفع «الحرس القديم» إلى تقاعد تدريجي غير مذل للكبرياء. بل يزايد النظام على «الأسلمة» الأميركية بالمناداة بتجديد الخطاب والاجتهاد الإسلامي من خلال حليفته المؤسسة الأزهرية، وزقزوق وزير أوقافه.

النظام العربي أيضا يلعب على عامل الوقت. فهو يجد راحة كبيرة في هجمة الإسلام الجهادي والانتحاري على الإسلام المعتدل في تركيا والمغرب. وربما يجد في الحرب بين هذين الإسلامين، فرصة للإفلات من أي مشروع للديمقراطية، سواء كان أميركيا مستوردا أو صناعة محلية من «شُغلِ الوطن».