المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية 1 ـ 2

TT

كثر الحديث في الآونة الأخيرة في المملكة العربية السعودية، عن المجتمع المدني. ورغم ان هذا المفهوم لا يزال في طور التشكيل في العالم العربي، حيث إنه وفقاً لمقولة الطاهر لبيب مفهوم «بلا تاريخ»، إلا أنه من الملاحظ أن بعض الأدبيات السعودية قد وسّع استخدامه وأعطاه معاني جديدة غير مألوفة، خرجت به عن إطاره المعرفي المعروف.

ويبدو أن كثرة الحديث عن المجتمع المدني في المملكة، يرتبط إلى حد كبير، بمشروع التحديث السياسي، الذي أعلنت عنه القيادة السعودية في الأشهر الأخيرة، حيث كثر الجدل في أوساط النخبة السعودية حول ما إذا كان التحديث السياسي يتطلب أولاً قيام المجتمع المدني في المملكة، أو أنه يمكن القفز على مرحلة المجتمع المدني والبدء في المشاركة السياسية من خلال الانتخابات العامة، سواء كانت جزئية أو كلية.

تتفاوت التعريفات التي قدمت لمفهوم المجتمع المدني، بين تعريف محافظ ومختصر، يعرّف المجتمع المدني بأنه «مجتمع غير رسمي وغير قبلي»، إلى تعريف أكثر ليبرالية وشمولية، يعرّف المجتمع المدني بأنه «المجتمع الذي يمارس فيه الحكم على أساس أغلبية سياسية حزبية، وتحترم فيه حقوق المواطن: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، في حدها الأدنى على الأقل»، وحيث ان التعريف الثاني تعريف سابق لأوانه للمجتمع المدني الهش في المملكة، كما أنه أقرب إلى الحالة الأوروبية من الحالة العربية، لذا فإن الموضوعية والواقعية تدفعنا للأخذ بالتعريف الأول، وهو التعريف المحافظ والمختصر للمجتمع المدني، وأعني به «المجتمع غير الرسمي وغير القبلي»، فهذا التعريف يقدم مفهوماً أقرب للموضوعية لحالة المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية.

لنبدأ أولاً في تبسيط التعريف الذي أخذنا به للمجتمع المدني في المملكة، وهو «المجتمع غير الرسمي وغير القبلي». إن غير الرسمي تعني استقلالية مؤسسات المجتمع المدني ـ التي سنتناولها لاحقاً ـ عن الحكومة ما أمكن.. وهذا الاستقلال يعتبر شرطاً ضرورياً لتشكيل المجتمع المدني. فكل ما زاد تدخل الحكومة في مؤسسات المجتمع المدني، ضعف المجتمع المدني وتلاشت الحدود بينه وبين المجتمع السياسي. وكل ما قل تدخل الحكومة في مؤسسات المجتمع المدني، نهض المجتمع المدني وبدأ يؤدي وظيفته ودوره المطلوب في التحديث السياسي.

أما غير القبلي، فتعني أن المجتمع المدني مجتمع مدن وليس هجر، وأن مؤسساته هي تلك التي ينشئها المواطنون بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، فهي إذن مؤسسات إرادية يقيمها المواطنون ويحلونها وينسحبون منها بمحض إرادتهم، على خلاف مؤسسة مجتمع البادية (القبيلة)، التي تتميز بأنها مؤسسة طبيعية يولد الفرد منتمياً إليها، وينشأ منسوباً لها، ولا يستطيع الانسحاب منها. ويرى محمد الجابري أن مسألة إرادة الانتماء سمة مهمة في المجتمع المدني ويجب أن لا تكون محل خلاف بين المهتمين بمفهوم المجتمع المدني.

ولقد أشار أكثر من باحث في شأن المجتمع المدني إلى وضع المدينة في الدولة المعنية، خصوصاً مسألة ما إذا كانت قيم وسلوك المدينة هي التي تهيمن على مجتمع المدينة، أم أن قيم وتقاليد الريف هي المهيمنة. باختصار، من الأهمية بمكان، ألا يُنظر للمدينة على أنها وحدة سكانية بها طرق واسعة ومبان حديثة، بقدر ما يُنظر إلى المدينة من خلال قيم السكان المقيمين فيها ونمطهم الاستهلاكي والتغير الذي طرأ على سلم أولوياتهم، خصوصاً في مجال الانتماء الاجتماعي.

يطرح (فوكوياما) مسألة ذات صلة مهمة في نهوض المجتمع المدني، وهي الاعتراف بحريات وحقوق معينة للمواطن في الدولة غير خاضعة لسيطرة الحكومة. وهذه الحريات والحقوق، يجب أن تسود في مجتمع الدولة قبل الحديث عن مشاركة سياسية أو ديمقراطية. لذا، اهتم (فوكوياما)، بما سماه بـ «الليبرالية السياسية في مجتمع الدولة»، التي عرفها بأنها «قاعدة قانونية تعترف بحريات وحقوق معينة للفرد وغير خاضعة لسيطرة الحكومة». وهذه الليبرالية السياسية هي التي تمثل جسر التواصل بين المجتمع المدني والتحديث السياسي في الدولة، فتوفير الحرية للأفراد، وحماية حقوقهم، والحد من هيمنة الحكومة على شأن المواطن، تضع الأساس لمجتمع مدني فعال. ورغم ان الحقوق والحريات تختلف في مفهومها من دولة إلى أخرى، حسب البيئة الثقافية والاجتماعية، إلا أنه بدون هذه الحريات والحقوق لا ينهض المجتمع المدني ولا يكون للتحديث السياسي أي معنى. ان تجاوز الليبرالية السياسية في الممارسة السياسية، يفسد كثيراً من مضامين المشاركة السياسية والديمقراطية.

على سبيل المثال في دول عربية وإسلامية نسمع عن الانتخابات العامة، ونقرأ عن تعدد الأحزاب السياسية، لكن في الوقت نفسه، نسمع ونقرأ أن صحافياً قد اعتُقل أو أوقف لأنه نشر مقالة تخالف توجه الحكومة، وأن مواطناً آخر قد تمت مصادرة ثروته والحجز عليه هو وعائلته لأنه قيل عنه إن له توجهات تخالف سياسة الحزب أو الحكومة. هذه أمثلة لحالات تحدث في عالمنا العربي والإسلامي، لماذا؟، لأننا قفزنا على مرحلة المجتمع المدني، مجتمع الحقوق والحريات، وتجاهلنا أبجديات التحديث السياسي، وأصبح مطلب الانتخابات وترديد شعارات الأحزاب غاية بحد ذاته، حتى وان جاءت الانتخابات وقامت الأحزاب على حساب حقوق المواطن وحريته.

في دراسته عن (إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية)، التي أشار فيها إلى التجربة الجزائرية، يصل خميس والي، إلى استنتاج مفاده ان «أي تغيير لتحقيق الديمقراطية، لا بد من أن يأخذ في اعتباره، علاقتها العضوية بطبيعة الدولة ومستوى نموها ودرجة استعدادها لذلك»، ثم يمضي قائلا: «والإشكالية أن كيان الدولة في الوطن العربي لا يزال لا يحتمل بقوة، التعددية الديمقراطية، لأن التعدديات العصبية المترسبة لم تنصهر بعد في بوتقة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث». ان ما سيصهر العصبيات التي أشار إليها والي، في بوتقة الدولة العربية الحديثة، وما سوف يزيل مسببات التنافر في المجتمع العربي، ويحول التجمعات العربية إلى مجتمع متناسق، هو نهوض المجتمع المدني في الدول العربية بمقوماته الحقيقية، ليفتح المدخل الموضوعي للحل السلمي للخلافات داخل الدول العربية.

باختصار، علينا أن نفعل ما فعلته الدول المتقدمة، التي تحظى الآن باستقرار سياسي وتماسك اجتماعي، حتى وإن انتظرنا قليلاً، ما دام العائد السياسي سيكون كبيراً. أما القفز فوق مطلب المجتمع المدني، فقد يؤدي إلى السقوط في هاوية الأزمة السياسية، ومن ثم في دوامة العنف السياسي.

ان المواطن السعودي، بحاجة ماسة في الوقت الحاضر، إلى ضمان حقوقه الأساسية والاعتراف له بحرية التعبير عن رأيه أولا وقبل كل شيء، كما أنه بحاجة إلى تعميق انتمائه الوطني وتعزيز دوره في المشاركة الاجتماعية والسياسية ليشعر أنه في منظومة الانتماء وليس في عالم الاغتراب، هذا العالم الذي لخص أحمد صالح نتائجه الضارة، بأن «بعضها يؤدي إلى الانزواء، والبعض الآخر إلى التمرد وإلى الجريمة وإلى التديّن المُبالغ فيه، الذي يعني في الحقيقة الابتعاد عن الحياة ورفضها تماماً أملاً في الآخرة». عند هذا الحد، نكتفي بما ذكرنا عن مفهوم المجتمع المدني ونأتي إلى حالة المجتمع المدني في الدولة السعودية.

* عضو مجلس الشورى السعودي..

والجزء الثاني من الأطروحة ينشر غدا