كيف يقدسون موتاهم ونستهين بأحيائنا!

TT

أعادتني أخبار المفاوضات التي تجري بين حزب الله وإسرائيل حول تبادل الأسرى، إلى أجواء الثمانينات حين كنت في سورية وعايشت حالة الفرح التي غمرت المئات من العائلات وهي تنتظر عودة أبنائها الأسرى في أكبر صفقة تبادل، تمت بين الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة وإسرائيل في عام 1985، وبموجبها أطلق ألف وخسمائة أسير عربي مقابل رفات ستة من الجنود الإسرائيليين، قضوا في الحرب.

لم يفكر الناس آنذاك بمغزى تلك المبادلة، وبالمعادلة غير المتكافئة بين الحياة بكل أنوارها والموت بظلماته، عاشوا لحظات تساوي العمر كله وهم يضمون أبناءهم إلى صدورهم فيختلط نشيجهم بالفرح الآتي من بعيد. في ذلك الحين، توفرت لي فرصة اللقاء بأحد العائدين، كان عراقيا، تطوع منذ السبعينات في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ جناح وديع حداد، داهمته قوات الكوماندوز الاسرائيلية أثناء تنفيذه لإحدى عمليات اختطاف الطائرات. وبحكم جيرتي لعائلته، أتيح لي التعرف إليه وسماع تفاصيل يومياته في السجون الإسرائيلية، كان يروي معاناته ويستحضر أساليب استجوابه وكيفية القبض عليه حين أوهموه ورفاقه بأنهم أتباع الختيار (أبوعمار)، جاءوا لمساعدتهم، ويتيه الراوي ببطولاته وقدرته على محاججة سجانيه وحصرهم في زاوية الحرج. أصغيت له وأصغى اخوته وأقاربه، تبادلنا الابتسامات التي كانت موضع استغراب من البطل العائد، لا لشيء سوى اننا تذكرنا كيف كان الاستجواب في العراق، وكيف كان مصير من يحاجج سجانيه، بل مجرد أن يفكر في الأمر وينظر في وجوههم؟.

لا شك أنه سار طويلا في دروب الآلام والاخفاق عن تحقيق هدفه، لكن ذلك لم يكن يعني شيئاً بالنسبة لشباب عراقيين خبروا التعذيب والمهانة في سجون دولة البعث.

تحدث لنا باندفاع، نسي معه وجودنا.. حاولنا مقاطعته، لكن بلا جدوى، كنت أرقب اندفاعاته والتقط من تفاصيل حديثه خيطاً رفيعاً يفصل بين الإنسان ومصيره، بصرف النظر عن هويته، عربياً كان أم إسرائيلياً. وتيقنت ان من ينخرط في مقاتلة عدوه، يمكن أن يكتسب بعضاً من غلظته وتتسلل القسوة إلى نفسه ومفرداته دون أن يشعر، ففي استعراضه للعمليات الفدائية، الناجحة منها والفاشلة، كانت مفردة القتل، تجري على لسانه ببساطة متناهية، سبّب لي ذلك شيئاً من النفور، على الرغم من تعاطفي مع وضعه وسنواته العشر بعيداً عن عائلته وهو في سن مبكرة.

استدعيت هذه الذكرى مع شيء من التفاؤل في نجاح المفاوضات بين حزب الله وإسرائيل، وتصورت حال الأمهات والآباء في انتظار العائدين وعمق الخيبة التي يعيشونها بعد تعليق المفاوضات، وبدا لي ان الامر كله سياسة، بعيداً عن ارضاء التطلعات الشعبية ومشروعيتها، خاصة بعد التصعيد الأخير في الخطاب «المقاوم» وشدة الحميّة في الدفاع عن سورية وإيران، في مواجهة الاخطار الخارجية، الحقيقية منها والموهومة، ولشدة النفَس الثوري المصاحب للخطاب، تحول نهج «المقاومة» الى ثابت مقدس، يضاف إلى «ثوابتنا القومية»، حتى حين تنتهي موجباته.

ويمكن أن نتوقع استمرار المقاومة على الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية، حتى لو اخلت اسرائيل مزارع شبعا، أو قُدم حل لقضية اللاجئين المستحيلة، لأنه ببساطة تبقى سورية والجمهورية الإسلامية في إيران في خطر.

ولا ننسى الوجود الأميركي في العراق وما يضفيه «الولي الفقيه» علي خامنئي على الإرهابيين من وصف المقاومة، على حد ما ورد في خطاب جمعوي له في الشهر الماضي وقوله: «ان المقاومة في العراق تتنامى...».

وفي قضية المفاوضات، استوقفني رأي، ورد في مقال للكاتب المصري مأمون فندي، بتاريخ 17/11، الذي افتتحه بقوله: «إسرائيل تتفاوض مع الشيخ نصر الله، وأميركا تحارب بن لادن، فهل هناك أهداف مقصودة أو غير مقصودة، لتهميش الدول العربية والنخب الحاكمة؟»، وهذا يعني ان كيانات الدول، تتراجع لمصلحة احزاب أو حركات، فبدل ان تجرى المفاوضات لإطلاق الأسرى بين الدولة اللبنانية وإسرائيل، تشطب الدولة لمصلحة حزب الله، بالطبع لا ننسى للحزب مبادرته واهتمامه بالأسرى في مقابل نسيان الدولة، وكذلك خدماته الانسانية عبر مؤسساته الكثيرة، التي منحته شعبيته.

وعلى الرغم من خطورة حالة التهميش التي تعيشها الدول العربية، والتي كانت نتيجة طبيعية لسياسة حكامها وسلوكهم، بتركيزهم على السلطة قبل الكيان، فإن الأهم هو حقيقة صفقة التبادل، التي اعتبرها الكاتب فندي، مخزية، وانها تستوجب الشعور بالعار، لأنها تقابل بين أربعة اسرائيليين وأربعمائة عربي. لا بد أن في هذا الوصف، بعض المغالاة، لكن ذلك لا يلغي الأساس الموضوعي الذي اعتمده.

ان اصرار حزب الله على المضي في المفاوضات وحرصه على ان تشمل كل الأسماء دون استثناء، يعكس تقديراً لمفهوم الحياة، ولعل في ذلك تعارضا اكيدا مع من يدعون لثقافة الموت، التي يجري تصديرها الى العراق لترويع شعبه وحرمانه من مستقبل آمن، كان يطمح اليه.

وفي الحديث عن الوضع في العراق، يجري خلط متعمد لدى السياسيين، وغير متعمد لدى الجماهير البسيطة، التي يسهل تثويرها واستثمارها، خلط بين مفهوم حق الشعوب في الدفاع عن كرامتها، وإنكار حقها في الحياة لمصلحة مقولات آيديولوجية، دفنها الواقع، من قبيل: مقاومة الاحتلال الأميركي، دون الالتفات الى مرحلة الاحتلال الطويلة التي مارست فيها الانظمة الحاكمة أبشع اساليب القهر ضد شعوبها، والنظام العراقي السابق مثال صارخ في هذا المجال.

ولفرط ما استخدم الإعلام العربي، كلمة المقاومة في غير سياقها، لم نعد بحاجة الى ان نحيطها بين مزدوجين لنثبت خروجها عن معناها المشروع، وبشكل خاص في الحالة العراقية، فاللصوص والمجرمون العاديون والقتلة المحترفون، كلهم مقاومون فبئس المقاومة تلك التي يتغنى بها بعض السياسيين والمثقفين العرب، الذين لا يدركون ان ثقافة الموت التي يبشرون بها تكفيرية بكل ابعادها، وهي ما ان تتمكن من أي مجتمع، ستسحقهم مع كل البنى الحديثة التي يعمل التكفيريون على هدمها ليقيموا محلها دولة المهاجرين المزعومة.

* كاتبة عراقية مقيمة في لندن