محنة المسلمين بين سنن الله الجارية وسنن الله الخارقة

TT

المشهد الأول:مئات الآلاف من المسلمين يصلون في الحرم الشريف يدعون الله أن يولي أمورهم خيارهم.

المشهد الثاني: مئات الآلاف من الجورجيين (من مواطني جورجيا) يخرجون في مظاهرات يطالبون رئيسهم بالاستقالة.

عمَّ يبحث اللاهثون بالدعاء في المشهد الأول؟ وفي ماذا يأمل الخارجون إلى الشوارع في المشهد الثاني؟ الفريق الأول يبحث في سنن الله الخارقة كأن يدمر أعداء المسلمين وأن ينصر المؤمنين وأن يحل لهم مشاكل الدنيا والدين. أما الفريق الثاني من الجورجيين فلم يذهبوا إلى الكنائس في سباق محموم من أجل أن يتقبل عنهم ربهم دعاءهم ويزيل عنهم رئيسهم، بل قرروا أن يحلوا مشاكلهم بأيديهم.

هذه المفارقة أشار إليها باقتدار الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، في مداخلة ذكية على شاشة احدى الفضائيات في الليلة قبل الأخيرة من رمضان حينما كان الفريقان في الوقت نفسه يبذلان السعي لنيل مآربهما. ان المسلمين في مأزق، إنهم يريدون الجهاد من دون أن يعدوا له ما استطاعوا، ويريدون تصحيح صورتهم عند غير المسلمين من دون ان يجتهدوا بالقدر الكافي لتصحيح واقعهم، ويريدون أن يولي أمورهم خيارهم من دون أن يتحملوا أكثر من مشقة الدعاء، انهم «أرادوا الخروج» من دون أن «يعدوا له عدته» فألقوا بأنفسهم في مفارقة الأمل في سنن الله الخارقة من دون العمل من اجل سنن الله الجارية. ان الرسول الكريم أعد عدة الهجرة من طعام وشراب ودابة ورفيق ودليل (وإن كان كافرا) أخذا بسنن الله الجارية، ثم جاء احتياجه لسنن الله الخارقة حين قال صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، فتدخل الله بسننه الخارقة بأن أوحى لعبده ألا يحزن فإن الله معه. وكأنه يكرر مقولة موسى عليه السلام يوم أخذ بسنن الله الجارية بأن أسري بعباد الله ليلا لأنهم متبعون، وحين احتاج المؤمنون مع موسى لسنن الله الخارقة كان الله عونا لهم فقال موسى «إن معي ربي سيهدين».

لقد سئل يوما الدكتور زكي نجيب محمود عن محنة المسلمين فكان رده أنهم قد فقدوا الحس الإسلامي، فأقاموا الشعائر والعبادات وضيعوا القيم والمنهج.

ان عظمة الحضارة الإسلامية لم تأت من قدرتها على خرق العادات والارتفاع فوق قوانين الطبيعة وتحدي سنن الله في خلقه، بل باكتشافها والتفاعل معها. فقدروا العقل ورفعوا منزلته، وطوروا مناهج وأدوات بحث جديدة اختلفت جوهرياً عما خلفه اليونان القدماء. لقد اخترعوا علوما كالجبر مثلا، وصححوا مسارات اخرى كالكيمياء والفيزياء والطب، لقد جمعوا سيادة الكون وعبادة الله في معادلة تؤمن بسنن الله الكونية وتستلهم العمل من دون البحث عن خرق القوانين. قال احدهم: للجهاد معجزاته والموت في سبيل الله أسمى أمانينا حتى من دون أن نكون أقوى من عدونا، فلا ينبغي أن نؤجل الجهاد في فلسطين والشيشان وأفغانستان والعراق، قلت: ولكنك تخليت عن سنة الله في خلقه، فالموت وحده ما كان أسمى أماني المؤمنين الأوائل، فلو صح هذا لما عاد خالد بن الوليد بالجيش من مؤتة بعد أن تبين له استحالة النصر وهلكة الجيش، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا من باب «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» (البقرة 195). ان نصرة دين الله هي أسمى أمانينا، أما الشهادة، بنصر أو من دون نصر، فهي نتيجة سعينا للنصر وليست هدفا في ذاتها. فلقد أجل الرسول بعض المعارك (كغزوة ذات الرقاع مثلا)، إلى ما بعد صلح الحديبية حتى يأخذ بسنن الله الجارية في الإعداد والتخطيط والنصر. لقد استعان الرسول بسنن الله في خلقه بأن جعل الحكمة والعلم ضالة للمؤمن، وقد وجدهما المسلمون عند الفرس في فكرة حفر الخندق، وعند الرومان حينما استعان المسلمون بالمنجنيق لفتح الطائف، وعند المنافق (صفوان بن أمية) لحرب هوازن.

ان المسلمين قد ابتلوا بمرض تسجيل المواقف (بالدعاء مثلا) أكثر من السعي العملي لحل المشكلات (بالتفكير العلمي من أجل التخطيط لمستقبلهم). سمعت أحد الدعاة في شريط إسلامي يقول: «إن الله لن ينصر المسلمين على اليهود حتى يكون عدد المسلمين في صلاة الفجر كعددهم في صلاة الجمعة»، ان صلاة الفجر واجبة، وهي في المسجد أفضل درجات عند الله، هذا مما لا شك فيه، لكن ما علاقة صلاة الفجر في حد ذاتها بالنصر على اليهود؟، ربما كان يقصد أن يقول إن الله سينصر المسلمين إذا أبكروا بالقيام من النوم طاعة لله ثم عملا دؤوبا لينفعوا أنفسهم والمؤمنين وعشقا في إتقان ما يعملون ولسان حالهم: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».

وان سنن الله الخارقة لا يمكن التخطيط لها لأنها ليست بأيدينا، وإنما بيد الله يقلبها كيف يشاء «وما يعلم جنود ربك إلا هو» (المدثر 31)، ويمكن أن تعمل في صالح المؤمن كما للكافر. فالله «رب العالمين»، وليس فقط «رب المسلمين»، ومن هنا كانت التفرقة بين عطاء الربوبية الذي لا يفرق بين مؤمن وكافر، كما في قوله: «كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا» (الإسراء 20). وعطاء الألوهية الذي يمنّ الله به على عباده الذين جمعوا بين صفتي الإيمان بالله (قلبا ويقينا) والعمل الصالح وفق سننه كما في قوله: «الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا» (الكهف 30).

وعلى هذا فالعاقل المخلص في عمله، وإن كان كافرا سينتصر على المزيف والمتواكل وإن بدت عليه امارات الإيمان. ان مثل حال المسلمين كمن يرفض أن يتعلم السباحة ويخطط أن يغزو محيطات وبحار العالم بالدعاء من دون العمل.

إنني كم كنت أتمنى أن يطلب الأئمة والمشايخ من المسلمين أن يستبدلوا التزيد في بعض السنن، بجهد منظم لتنظيف شوارعهم من القاذورات، طالما أن النظافة فرض على المسلمين. إن أنفس المسلمين عامرة بالرجاء في الله والخوف منه، لكنها ليست عامرة بعلم سننه وتأمّل قوانينه والبحث العملي عن علاج لمشاكلهم. ان مثل مواطني جورجيا الذين خرجوا مطالبين بحقهم في رفض الاستبداد، ومثل المسلم الذي يدعو الله أن يولي أمور المسلمين خيارهم، كمثل المتوكل الذي أخذ بسنن الله في خلقه وكونه، والمتواكل الذي يدعو الله أن «تسقط عليه السماء ذهبا وفضة».

إننا بحاجة لإعادة ترتيب الأولويات لنجعل قيم العمل والعلم والابتكار والاتقان في المقدمة على قيم الصبر المتخاذل والتواكل الساذج ودعاء العجزة وانتظار المعجزات، اللهم أعطنا قلوب أهل الحرم وعقول أهل جورجيا.. آمين!.

* كاتب مصري مقيم في أميركا