ما بعد حفل الشاي واحتساء الدماء في العراق

TT

بعد إلقاء نظرة ذاتية فاحصة بدا من المؤكد ان مجلس الحكم العراقي بات على استعداد لمحاكمة النظام البعثي السابق. ويعتبر هذا القرار على قدر كبير من الاهمية لأنه سيضع حدا للجدل الدائر حول الجهة التي يحق لها إجراء هذه المحاكمات والمكان الذي ستجرى فيه.

يبدو واضحا ايضا ان مجلس الحكم العراقي يشعر بثقة كافية في إمكانية العراقيين الاضطلاع بهذه المهمة. لذا، ليس ثمة حاجة الى إقامة محاكم خارج العراق برئاسة قضاة اجانب لمحاكمة رموز وأعضاء النظام العراقي السابق. فمن المقرر ان تقام المحاكم المقترحة في العاصمة بغداد بمحكمة صدام حسين وشركائه بتهم متعددة ابتداء من الفساد وحتى الجرائم التي ارتكبت ضد الانسانية. إلا ان الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة انتقدا قرار إقامة المحاكم، الذي كان من المفترض اتخاذه قبل فترة، إذ أبديا قلقا ازاء احتمال ان تستبعد المحاكم إشراك الامم المتحدة وتتجاهل القواعد والممارسات القضائية المقبولة عالميا.

ينبغي ان يضع مجلس الحكم العراقي هذه الانتقادات في الاعتبار، لكنه يجب ان يفعل ما يعتبر في نظره صحيحا. فالاتحاد الاوروبي والامم المتحدة لا يزالان يرفضان الاعتراف بمجلس الحكم العراقي كسلطة شرعية. كما يرفضان ايضا الاعتراف بأن إطاحة نظام الرئيس المخلوع صدام حسين كانت في واقع الامر تحريرا للعراقيين، لذا ليس في وسع أي منهما ادعاء سلطة اخلاقية في توجيه العراقيين بما ينبغي عليهم فعله.

ليس هناك ما يجبر العراقيين على الثقة في الامم المتحدة او الاتحاد الاوروبي اللذين لم يفعلا أي شيء بغرض وقف أعمال صدام حسين الاجرامية. بل على العكس، فقد ساعدت عدة دول اعضاء في الاتحاد الاوروبي صدام حسين في بناء آلة القمع والموت، فيما لعبت منظمة الامم المتحدة لعبة القط والفأر معه على مدى 13 عاما. كما ليس هناك ما يجبر العراقيين على الوضع في الاعتبار ما يراه الذين يزعمون انهم يمثلون الرأي العام في الغرب.

والاقتراح بأن الفكر الغربي ربما ينظر نظرة شك للمحاكم العراقية، ليست له قيمة. واذا كان نعني بـ«الفكر الغربي» التحالف الجديد من الاسلاميين والستالينيين بالاضافة الى اتباعهما، فهذا يكفي ان نتذكر انه لم تنظم مظاهرة احتجاج واحدة عندما كان صدام يقتل آلافا من النساء والاطفال بأسلحته الكيماوية، ويدفنهم في كل هذه المقابر الجماعية.

لقد شاهدنا كيف نظم «الفكر الغربي» مظاهرات ومسيرات يندب فيها سقوط صدام حسين ويدين تحرير العراق، على حد تعبير الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بينتر «حفل شاي لاحتساء الدماء» للرئيس الاميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ان «الفكر الغربي» يود لو حاكم بوش وبلير والشعب العراقي بأكمله بدلا من النطق بكلمة واحدة ضد صدام.

وبعد الاشارة الى كل ذلك على مجلس الحكم التأكد من ان المحاكم ملتزمة بأعلى مستويات العدالة.

وفي البداية يجب على المحاكم ان تحد من سلطاتها لكي تحاكم فقط كبار شخصيات النظام بما في ذلك صدام.

فعلى الورق يتباهى الصداميون بقاعدة واسعة.

فحزب البعث يضم في عضويته اكثر من مليون عضو على ثلاث مستويات. ويرتبط ملايين بالحزب عبر النقابات والاتحادات المهنية ومنظمات الشباب. وفي النظم السلطوية مثل نظام صدام من المستحيل الحياة بأي اسلوب يقترب من الحياة الطبيعية بدون التأثر بالحزب في السلطة.

غير ان التركيز على الدائرة المقربة للنظام الصدامي تشكف عن محدودية عملية اتخاذ القرار فيها.

فلم يكن صدام يثق بأحد، فيما عدا ابنه الثاني قصي. ولم يبلغ أي شخص بالقرارات الهامة، مثل غزو ايران عام 1980 وضم الكويت عام 1990.

وقد كان الحكم الذي أقامه أكثر إيغالا في الخضوع لشخص واحد مما كان عليه النظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي. وسيفعل مجلس الحكم خيرا لو حصر مهمة المحكمة في محاكمة مجموعة صغيرة من قادة النظام الكبار، يكون من ضمنها صدام، على ألا يتعدى عددهم الكلي أكثر من عشرة بكثير. وستكون محاكمة هؤلاء محاكمة للنظام البعثي كله لسجله الإجرامي الذي امتد 35 عاما.

ولكن صدام كانت لديه عادة سيئة. فقد أجبر بعض مساعديه الكبار على قتل بعض المعارضين الحقيقيين أو المتخيلين، بصورة شخصية مباشرة، وكثيرا ما فعل ذلك أمام آلات التصوير. وتبريره لذلك هو أن الرجل الذي يقتل ولاء للرئيس لا يمكن أن يخونه. ومثل هؤلاء يمكن تحويلهم إلى المحاكم المدنية ومحاكمتهم كمجرمين وقتلة. وتقديري أن الذين تنطبق عليهم هذه المواصفات يقلون عن المائة.

سيواجه العراق قضية التعامل مع الكوادر الوسيطة من المسؤولين الذين كانت الماكينة البعثية تدور بفضل مجهوداتهم. وربما يكون عدد هؤلاء حوالي 3000 ويمكن التعامل معهم من خلال هيئة خاصة، على غرار «لجنة الحقيقة والمصالحة» التي كونتها جنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الأبارثايد. ولا يحتاج العراق إلى محاكمات بلا نهاية يعرض فيها آلاف المتهمين أمام القضاة لأشهر عديدة إن لم يكن لسنوات.

أما بالنسبة للبقية فعلى المجلس أن يصدر عفوا عاما يشمل الجرائم السياسية التي ارتكبت قبل الاحتلال. وهذا سيمكنهم من رفع قضايا ضد الأفراد الذين يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم أخرى مثل الفساد، التعذيب، الإغتصاب، الخطف، مصادرة الممتلكات الخاصة وغير ذلك من الأعمال الإجرامية.

أعمال المحكمة ولجنة الحقيقة والمصالحة يجب أن تكون علنية، وأن تسمح لقادة النظام السابق بمحامين للدفاع عنهم بمن في ذلك محامون أوروبيون.

ويتعين على المحكمة، أيضا، أن تدعو مواطنين أجانب الى تقديم شهاداتهم، بمن في ذلك عوائل عشرات ألوف الايرانيين الذين لقوا حتفهم في هجوم صدام الكيماوي، ومئات الكويتيين الذين قتلهم رجال صدام حسين بدم بارد. وليس هناك مبرر لعدم إرسال الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات أجنبية معنية أخرى مراقبين للمحكمة بينما يسمح لوسائل الاعلام العالمية بتغطية جلساتها على أساس قواعد واضحة.

أما بث الجلسات بصورة حية فما يزال موضع دراسة. ويعتقد بعض العراقيين أن البث الحي يمكن أن يذكر الشعب بالمحاكمات الصورية التي نظمها عبد الكريم قاسم، أول دكتاتور في العراق بعد النظام الملكي، كما أنه يعرض للعراقيين والعالم عموما الطبيعة الحقيقية للأنظمة الشريرة في التاريخ المعاصر. غير أن آخرين يصرون على ان البث الحي سيكون له تأثير تربوي على العراقيين أنفسهم والرأي العام العالمي عموما. وما يزال هناك أشخاص، خصوصا في الغرب، يرفضون أن يصدقوا أن صدام كان على رأس أكثر الأنظمة شرا في التاريخ الانساني.

والقضية الأخرى التي يجري حولها جدل في العراق هي ما اذا كانت المحكمة ستبدأ قبل قيام حكومة منتخبة. ويؤكد البعض أن المحكمة يمكن أن تطرح باعتبارها أداة للقوات المحتلة. ولكن يمكن مواجهة ذلك الزعم من خلال حقيقة أن قضاة المحكمة سيكونون من العراقيين فقط.

وعلى الرغم من الصعوبات الجلية فانه من الأفضل البدء بالمحكمة في أقرب وقت ممكن. ففي أجواء انتخابية يمكن أن تتحول القضية الى قضية حزبية حيث يطالب البعض بـ«بحر من الدم» انتقاما من مقترفي جرائم البعث، بينما يعظ آخرون بتسامح لا حدود له. ويمكن لمثل هذا الجدال أن يقسم الشعب في وقت يحتاج فيه الى الوحدة في فترة انتقال حساسة. إن عقد المحكمة الآن يمكن أن يوفر الحكومة المؤقتة التي ينتظر إقامتها بحلول منتصف العام المقبل لأن تركز اهتمامها على المستقبل بدلا من الماضي.