السينما ليست بيانا سياسيا

TT

أثار افتتاح مهرجان دمشق السينمائي قبل ايام الكثير من الشجون في نفس المثقف العراقي المغيّب قسرا. لقد حركت المناسبة مشاعر مختزنة في نفوس المثقفين العراقيين الذين حرموا من ان ينهضوا بوطنهم، وينهض بهم. وانه لحق مشروع أن يثير كل مهرجان ثقافي مشاعر الكره للنظام العراقي السابق الذي حرم العراقيين من حق الانجاز. بعد سقوط صدام حسين كان من المفترض أن يأخذ العراقي حقه في الابداع، بما في ذلك المجال السينمائي، واقامة المهرجانات السينمائية، وانعاش معاهد السينما، ولكن هذا لم يحصل بعد. لقد عملت معظم الأنظمة العربية ممثلة بفضائياتها، ولا تزال تعمل، على الغاء الوجود الثقافي العراقي وتعمدت تجاهله وتهميشه، بل وساومت النظام القاتل على حساب حق العراقي في الحياة والابداع، وهو لا يزال ملغى من الوجود الثقافي (الشكلي) عراقيا وعربيا.

شاهدت حفل افتتاح مهرجان دمشق السينمائي منقولا السبت الماضي (السادس من الشهر الجاري) بشكل مباشر من التلفزيون، وأثارت اهتمامي الصيغة الشمولية للثقافة عموما، والثقافة السينمائية خصوصا، التي عانى منها العراق أكثر من أربعة وثلاثين عاما كرست فيها هذه الأداة الثقافية لخدمة الايديولوجيا. والسينما لم تكن يوما بيانا سياسيا، بل هي صيغة جمالية مادتها الواقع حتى في أكثر الأساليب الفنية صعوبة ومنها السينما السوريالية، فالواقع هو مادة السينما دائما، ولذلك فهي فن الشعب. ولكن صيغة التعبير عن الواقع وعن هموم الناس هي القيمة الجمالية التي تعكس قوة لغة السينما التعبيرية. هذا هو التصور الذي أتمناه لبلدي العراق بعد رحيل الدكتاتورية واختفاء الايديولوجية الحزبية التي كان يتم اسقاطها على الثقافة مثلما يتم اسقاطها على تصدير التمور مثلا، وهو ذاته ما أتمنى ايضا للسينما العربية، كي تحقق ذاتها الحقيقية في حرية التعبير الكاملة، مستفيدة من تجربة العراق السياسية والثقافية الصعبة. ولأن السينما في سورية افرزت عبر تاريخها عددا من السينمائيين الممتازين، فإن الارتقاء بالموهبة السينمائية رهين باستقلالية السينما.

ولكي تحقق السينما مهمتها كأهم أداة تعبير بصرية وسمعية، فإن حرية التعبير هي الطريق الوحيد للنهوض بالمهمة الثقافية السينمائية. وهذه الحرية تتمثل في استقلالية الانتاج السينمائي. ففي العالم المتقدم سينمائيا، مثل أميركا وايطاليا وفرنسا، نلاحظ ان الطبيعة التجارية الكبيرة لشركات الانتاج تتيح للسينمائي قدرة الانتاج الكبير، لأن شركات الانتاج مرتبطة أساسا بشركات التوزيع، أو أن شركات التوزيع هي مفصل من مفاصل شركات الانتاج، وهذه الشركات تحقق أرباحا كبيرة جدا، وتحقق مفهوم «السينما تجارة وفن» مثلما هي صناعة وفن، ولذلك لا يحتاج السينمائيون الى دعم الدولة. أما في البلدان التي لا تزال السينما فيها فتية فانها تحتاج الى دعم وزارات الثقافة لانتاج الفيلم السينمائي، لأن شركات الانتاج الخاصة التي لا يتعدى معدل انتاجها السنوي ثلاثة افلام في احسن الاحوال لا تتمكن، خصوصا ضمن هيمنة شركات التوزيع العالمية على السوق السينمائية، من النهوض بالسينما في بلدانها. من هنا يأتي دور وزارات الثقافة مكملا للعملية الانتاجية بدعم الانتاج السينمائي شريطة الا يكون هذا الدعم مشروطا. كما ان هناك مهاما أخرى تقع على عاتق وزارات الثقافة في مثل هذه البلدان، ومنها سورية، تتمثل في انشاء مخابر الطبع والإظهار، وستوديوهات الصوت التي تشكل بمجموعها القاعدة الانتاجية وتترك لشركات الانتاج التي ينبغي أن تكون مستقلة مهمة الانتاج والتوزيع. المعنى المقصود هنا هو أن لافتة «المؤسسة العامة للسينما»، التي تعني ارتباط السينما بوزارة الثقافة كجهة انتاج، يجب أن تلغى. وكم سيكون جميلا ـ على سبيل المثال ـ لو أن وزارة الثقافة السورية اكتفت بتنظيم المهرجان وتركت للسينمائيين مهمة الانتاج، لتتسابق فيه الأفلام التي ينتجها المخرجون السوريون الى جانب المخرجين العرب باستقلالية انتاجية تؤدي الى كشف الواقع الموضوعي بعين الوعي والحرية الكاملة.

هنا يمكن لوزارة الثقافة ان تشكل أيضا المصدر الداعم للانتاج سواء بتقديم الدعم المالي للسيناريو الجيد أولا، وثانيا شراء نسخة من الفيلم بعد انتاجه بسعر خاص ليحفظ في المكتبة السينمائية التي يقع انشاؤها على عاتق وزارة الثقافة. وهذه التجربة نجحت في اليونان في زمن وزيرة الثقافة ميلينا ميركوري بعد سقوط الدكتاتورية في اليونان.

ولو نظرنا الى أسباب نجاح السينما الايرانية فاننا نرى أن استقلالية الانتاج السينمائي كانت هي السبب في أن يرتقي الفيلم الايراني وبفترة قصيرة ونموذجية، الى مكانة عالمية ويحصل على جوائز كبيرة. ومع أن الايديولوجيا الدينية هي السائدة في ايران الا أن تجربة السينما الايرانية في استقلاليتها تعتبر نموذجا يمكن أن يقتدى به حقا على مستوى الانتاج. فوزارة الثقافة الايرانية عملت على انشاء مدينة سينمائية كبيرة تحتوي على مدن مستوحاة من التاريخ الاسلامي بجانب اماكن اخرى تحتوي على البارات التي كانت موجودة في زمن الشاه وتشتمل المدينة على الشوارع والسكك الحديدية التي تتيح حركة الكاميرا داخل البلاتوهات. هذه المدينة تابعة لمؤسسة سينمائية مرتبطة بوزارة الثقافة، ولكن الانتاج السينمائي يقوم به المخرجون بصفتهم منتجين منفذين ويحصلون على الدعم لأول ثلاثة أفلام ويتم شراؤها وتقوم شركة توزيع كبيرة أنشأتها الدولة بتوزيع الأفلام داخليا وخارجيا.

أليس من الافضل للثقافة والثقافة السينمائية أن يصار الى الغاء دور الدولة في انتاج الثقافة وأن يقتصر دورها على بناء القاعدة الانتاجية، ومن ثم ترك العملية الابداعية حرة للسينمائيين. بذلك فقط يمكن أن تتألق الثقافة ككل، والثقافة السينمائية بالذات. لقد انتهى زمن مؤسسات السينما التابعة للدولة، ولذا بدا مشهد افتتاح مهرجان دمشق السينمائي مثل لوحة تعود الى ماض قديم عفا عليه الزمن. ان دور وزارة الثقافة في الدول النامية هو أن تؤسس مدينة للسينما تتوفر فيها كل فرص التصوير وتترك للسينمائيين حق العمل وتدعمهم دعما غير مشروط، سواء في عملية دعم الانتاج أو في شراء الفيلم وحفظه في المكتبة السينمائية لتاريخ سورية السينمائي. ان تجربة السينما الايرانية ليست كاملة في استقلاليتها ولكنها تعتبر في المقام المتقدم الذي يمكن أن تستفيد منه الكثير من البلدان العربية.

وثمة ملاحظة تقييمية فنية لابد من الوقوف ازاءها، فبعد كلمة مدير مؤسسة السينما السورية وصعود بعض ضيوف المهرجان والمحتفى بهم لتكريمهم ووقوفهم الى جانب وزير الثقافة، خاطب مدير مؤسسة السينما المحتفى بهم كي يقتربوا من بعضهم من أجل أن تجمعهم العدسة لصورة تذكارية. غريب أن يبدي مدير مؤسسة سينما مثل هذه الملاحظة، وبصوت عال، ومن منصة مسرح صالة العرض. فمثل هذه الملاحظة يمكن أن توجه لمجموعة من الاشخاص يجمعهم حفل عائلي في غرفة صغيرة وسيجري تصويرهم بكاميرا للهواة يصعب أن تجمعهم في لقطة واحدة، وليس على المسرح وكاميرات السينما والفوتوغراف تستطيع أن تلتقط الصورة من النهر الى البحر، ومعروف ان هناك كاميرات فوتوغراف تلتقط الصورة بلقطات ثابتة بانورامية بمائة وثمانين درجة، اضافة الى الكاميرات الفوتوغرافية العادية ذات البعد البؤري الطويل والعريض، فنحن في مهرجان سينمائي وفي صالة سينما وعلى مسرح والمسافات طويلة والانارة تضيء المكان وتنيره، فكيف يطلب مدير مؤسسة سينما من ستة أشخاص على المسرح أن يضيقوا المسافة بينهم حتى تجمعهم الصورة الفوتوغرافية. انه امرغير قابل للتصديق.

يبقى ان المهرجان اختلطت فيه السياسة بالسينما، فضاعت القيمة السينمائية. كل ذلك بسبب الصيغة الرسمية للسينما، صيغة سينما الدولة، وصيغة سينما الايديولوجيا. عندما يتم فك الارتباط بين الثقافة كمنتوج حر وبين الدولة كجهة انتاج، يمكن لعواصمنا العربية اقامة المهرجان السينمائي الجميل والمتطور والخالي من الارباكات والأخطاء، لأن حرية التعبير هي التي تنتج الثقافة الحقيقية.