وقفة مع العروبة والأصدقاء

TT

هل كان من الممكن ظهور المبادرة بتشكيل الحزب الفرعوني ما لم تكن الهزائم العربية قد وصلت بنا الى نهايتنا. فالهوية المصرية ظلت محط سؤال منذ حملة نابليون التنويرية على مصر. قبلها لم تكن مصر سوى احد توابع الدولة العثمانية الظلامية، وقبلها من توابع من سبقها في تحصيل الخراج والجزية. بمعنى ان هوية مصر كانت تحددها عواصم من خارج حدودها ومصبا لجهد أبنائها عملا بالقاعدة الفقهية بأن الجزية والخراج هي للدفاع عن المسلمين وغيرهم من أهل الذمة. هكذا طبقت القاعدة فقط من طرف واحد وهو من يدفع. ولم يلتزم الطرف الآخر طوال التاريخ من الذين أتوا على أسنة رماحهم بما تعاهدوا عليه مع أهل البلاد. كان الخليفة في غفلة دوما عما تأتي به الريح وكانت الريح دوما تأتي بالجديد الذي عنه الخليفة مشغول بجواريه وندمائه. هكذا استمر المصريون يتناوب عليهم غزاة من كل حدب وصوب. كلهم مؤمنون وكلهم يقولون بأن عدوانهم فتح. فهل لنا ان نسمي غزوة بوش الاخيرة للعراق فتحا؟

التصنيف الاثنوجرافي للتفرقة بين البشر على اساس العنصر والجنس لم يعد قائما من علماء الأنثروبولوجياً واستبدل بالتصنيف الثقافي (الباء لا تدخل عندي على المتروك). ومع نشأة الدولة الحديثة أصبح التصنيف على الاساس الآيديولوجيا، ومع العولمة لن يعود هناك فرق بين البشر سوى ما يقدمه كل منهم من ايداع وانتاج ووفرة ورفاهية. وستتم التفرقة على اساس ما هو مطبوع على الغلاف الخارجي «صنع في ...».

فقد أصاب الأستاذ غسان الإمام بقوله ان العروبة هي ثقافة ولغة في عدد الجريدة بتاريخ 2 ديسمبر 2003 . ولكن ثقافة المصريين الآن لا تحمل فكرا ولا تنتج معرفة. فهي جدباء بل واخرجت قيادات ومعظم رجال الصف الثاني في تنظيم القاعدة وشارك أحد أبنائها ضمن التسعة عشر في جريمة نيويورك. مصر الفرعونية تنظر الى مصر الإسلامية والمستعربة بخجل على فعلتها في زمن الحداثة. إيزيس المصرية الجميلة لم تعد تميز السائرين في شوارع مدنها، جمالها الذي تباهت به أمام جميع الآلهة لم يعد له من ظل في واقع الشارع المصري. لقد ضحت بالكثير وقاومت ست، إله الشر، لتبقى جميلة من اجل بعث أوزوريس، بينما النساء في مصر الآن خضعن بالاغتصاب من شياطين التكفير. صحافتها لا هم لها إلا شتم أمريكا، عملا بالجحود العربي بعد ان استخدمت الــ99 في المائة من أوراق الحل لحل القضية مع اسرائيل. لقد نسوا أغنية عبد الوهاب في الزمن الجميل «حب الوطن فرض علي، أفديه بروحي وعيني». واستبدلوها بأغنية «سب أمريكا مش كفاية، اشتمها والمعونة جاية».

فما ليس جميلا لا نفع فيه. وما هو جميل فهو حق. هكذا ترك المصريون القدماء ما يعجز عنه الأحفاد من فن ومعمار، وفي ظل الثقافة الحالية فلا جديد ولا جميل. المهزومون لا ينتجون جمالا ورونقا وابداعا. كُرست الهيمنة من الخارج بعد الفتح الأول وتوالت الفتوحات كل ينزح بينما مصر الفرعونية صابرة لا لشيء إلا لأن نيلها ما فتئ يفيض ونساءها ما زلن يلدن وفوائضها ما زالت قابلة للنزح وتنتظر عمن يبحث عن لقمة العيش. أسوأ ما عرفته مصر ليس في استعمارها الخارجي انما في الجحود ممن أتوا اليها. كلهم يسبها لكن من فضلها يطعمون. ثديها الفياض جف ولم يعد يكفي أبناءها ولم تجد عوضا حتى لو شاركت فيه ايضا فيما يقال عنه تكاملا اقتصاديا.

لقد علم العرب كل مغامر سر فتح مغارة علي بابا. افتح يا سمسم بعد اسلامها الأول منذ زمن ابن العاص. فلماذا فتحت ثانية وثالثة ورابعة باسم الاسلام؟ مصر أسلمت قبل سليم الأول العثماني بأكثر من 700 عام. ومع ذلك جاء ليقول افتح يا سمسم أي أننا كفرة. بعد زوال الانجليز ظهر الفاتحون الجدد من الداخل، اقصد التكفيريين من الأخوان المسلمين. خرجوا ليسكنوا كهوفا وليعودوا بنفس الحجة. فهل حرر العرب مصر أم انهم كرسوا غزوها واستدامة قلقها؟

كل هذا لا يرقى للجريمة الاكبر التي ارتكبتها العروبة في حق المصريين عندما ألغت أجمل ابداعات البشر والتي على أساسها بزغ العلم والضمير والحق والجمال. انه الفن الذي اختفى من مصر بعد فتح العرب لها. وحتى يجد دعاة العروبة قيمة للفن في زمن الهوان أتوا بمن استعرض بتكرار ممل اسطوانته المشروخة فيما سمي الأرابسك. الحالة الصحية لذلك الفنان يشخصها ذلك الفن ذو الموتيفة الواحدة بتكرار ترددي. اكلينيكيا فهو في خانة المصابين بالشلل الرعاش واذا ما فحصناه في مستشفى العباسية الشهير نجده ضمن عنبر مرضى الوسواس القهري التكراري.

رحم الله العروبة، كانت عونا للأعداء على أهل البلاد وارهابا علي الجميع وفي كل الازمنة. وفنانوها من اصحاب العاهات. الحزب الجديد ليس اذن فقاعة ولكنه وقفة مع الصديق، مع الاعتذار للرئيس السادات، لوقف المرض العضال الذي لا شفاء منه. وهو ليس استفزازا الا لمن لا يتحمل رؤية المخالف والمغاير والمختلف. واستعادة المفقود وما هو أصيل ومعطاء دون مردود سوى الاوهام، وحتى لا يقصفنا بوش يوما بطائراته او نظل رهن من يزايد علينا بايمانه.