حوار القاهرة.. بين القاعات.. والكواليس

TT

قدم المتحاورون في القاهرة تفسيراتهم التقليدية لدوافع الحوار وغاياته. وبوسعنا تخيل ما يجري داخل القاعات من عرض للمواقف والبرامج وحتى الخلاصات.. اذ يكفي استرجاع حوار تم قبل سنوات في مكان ما.. لنكتشف ان المنطق هو المنطق والمفردات هي المفردات.. والخلاصات هي الخلاصات.

ولعل ما ازعجني في تفسير الاطراف المشاركة لأسباب الحوار ومضمونه، تجنب معظمهم، إن لم اقل جميعهم، ذكر الدوافع الحقيقية لهذا الحوار والاجندات الواقعية المحيطة به.

واذا كان حديث القاعات هو ذاته حديث الفضائيات، فما سيتم قوله هو ان الحوار الوطني حاجة ملحة لترتيب البيت الفلسطيني وتقوية الانتفاضة وضمان استمرارية وتفعيل المقاومة. واستطرادا ستجري عروض مشوقة لانجازات الفصائل، وما احدثته من انهيارات خطيرة داخل اسرائيل. كما ستأخذ وثيقة جنيف نصيب الاسد من النقد ولربما يصبح تراجع السلطة عن تشجيع هذه الوثيقة احد الشروط الضرورية لترتيب البيت الفلسطيني والتوصل الى تفاهم وطني، وربما الاتفاق على مرجعية سياسية موحدة.

غير ان ما يجري في القاعات والفضائيات شيء، وما يجب ان يجري في الغرف الخلفية شيء آخر. ففي تلك الغرف يواجه المسؤولون اقدارهم.. او بتعبير سياسي اكثر دقة، يواجهون استحقاقاتهم والتزاماتهم وهنا يجدر استعراض الاجندات الفعلية للاعبين الرئيسيين على حلبة الحوار.

* أولا: مصر..

* ان طريقة الدولة الاقليمية الكبرى، في اداء مسؤولياتها تجاه مصالحها وامنها الوطني، وتجاه التزاماتها القومية والاقليمية والدولية، يجب ان تفهم على نحو دقيق وواضح. ويجب ان يُفهم قبل ذلك لماذا اقتحمت مصر من جديد تجربة الحوار الفلسطيني، وما هي الخلاصات التي تتطلع اليها.

ان مصر تريد رؤية هدوء امني على ساحة الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ليس كهدف بحد ذاته وانما كممر للمحطة الحيوية التالية، وهي استئناف الحوار السياسي، على قاعدة تنفيذ خارطة الطريق. وبديهي ان مصر تدرك ان تحقيق ذلك لن يتم من دون هدنة ـ وهذه الهدنة لن تكتسب مصداقية الا اذا التزم الطرف الاسرائيلي بشروطها ومقومات صمودها.

ثانيا: فتح .. أي السلطة.. أي ياسر عرفات..

ان معالجة فتح للوضع الداخلي، لا تغفل حقيقة موضوعية وهي انها الفصيل الحاكم، الذي يتعين عليه وضع التزامات السلطة في كفة، وواجباتها الكفاحية في كفة اخرى.. ولكي تظل فتح في موقع صناعة القرار فلا مناص من بلوغ صيغة توازن.. لا ترجح فيه كفة على الاخرى.

ومعضلة فتح.. انها شريك في العملية الكفاحية، ووحيدة في التزامات السلطة، وحين تتجه الى القتال فلا مناص من تحالف موضوعي قد تكون مجبرة عليه مع الآخرين، وحين تتجه لتنفيذ الالتزامات فلا مناص من الاختلاف مع الآخرين.. وهنا يكون بعض فتح مع الآخرين كذلك.

وهذه المعضلة ـ التي لا حلول جذرية لها ـ تجسد احد ابعاد مآزق فتح الكثيرة. وتفضل فتح ـ وهي الحركة البراغماتية الاكثر من اللزوم ـ ان تقوم بتسويات مؤقتة تمرر من خلالها التزامات محددة. والهدنة المقترحة هي المخرج النموذجي لمأزق فتح وهي الممر الاكثر امنا لبلوغ محطة سياسية ولتفادي اي مستوى من مستويات الاقتتال الداخلي.

* حماس والجهاد

* ولهذين الفصيلين تجربة غنية تجمع نقيضين في قرار واحد، وهذان النقيضان هما ذروة البراغماتية في الاقدام على الخيارات التكتيكية.

لقد اقدمت هاتان الحركتان، وفي مراحل متعددة من مراحل وجودهما السياسي في عهد عملية السلام ـ على اتخاذ قرارات سجلت برسم الخروج التكتيكي عن الخطوط الاستراتيجية.

أولا: كان ذلك في حوار القاهرة بداية عهد السلطة الوطنية، وفي بواكير تطبيق اتفاقية اوسلو.

لقد اقدمت هاتان الحركتان على خطوات فعلية سُجلت لهما، حين منحا تطبيق اوسلو فرصة تحت احتمال ان يفضي الامر الى رؤية دولة فلسطينية، وتوقفتا عن العمل وأوشكتا على الدخول في تجربة الانتخابات.

غير ان الذي قوض هذا التوجه ـ البراغماتي ـ هو قيام اسرائيل باغتيال المهندس يحيى عياش، ثم جرى بعدها ما جرى.

ثانيا: وكان ذلك في عهد حكومة أبو مازن، حيث الهدنة التي صمدت لاكثر من خمسين يوما، وكانت عمليا من جانب واحد، وكان يمكن لهذه الهدنة ان تصمد وتتطور لو لم ير شارون ضرورة لاستئناف العمليات العسكرية وتقويض كل امكانات التقدم السياسي التي ظهرت في عهد حكومة عباس.

إذن، لن يضير حماس والجهاد.. ان تنخرطا في هدنة جديدة، ولكن هذه المرة بإدخال تعديلات جوهرية على شروطها وضمانات التزام الاسرائيليين بها. وهذه التعديلات ليست مجرد مطالب لحماس والجهاد.. بل هي شرط موضوعي لموافقة فتح ـ ولتوفر امكانات البناء السياسي عليها.

في سياق هذه الاجندات التي لا مفر من اجراء حوار صريح حولها داخل الغرف المغلقة، تظهر الاجندة الاسرائيلية، ولكن في مواجهة الخلاصات المتوقعة لحوار الاجندات الفلسطينية، فإن خرج المتحاورون في القاهرة باتفاق فلسطيني ـ فلسطيني ـ علني او سري ـ سينطلق الفصل الاصعب من اللعبة ـ بحوار قرارات وترتيبات بين مصر واسرائيل وسيتسع حتما ليشمل الرباعية، ومركزها امريكا التي هي في واقع الامر وراء كل ما يحدث.

قد يكون مبكرا قراءة الكيفية التي سيتعامل بها الاسرائيليون مع ما يجري في القاهرة، ولكن بالامكان القول انه اذا ما اتفق الفلسطينيون، واعلن المصريون رضاهم عن الاتفاق، فسيجد الاسرائيليون انفسهم في موقف حرج، لو ضيعوا فرصة التهدئة واهدروا امكانية الحوار السياسي من جديد.

في كل الاحوال.. ان على الفصائل الفلسطينية ان تتفق هذه المرة والا تبالغ في وضع الشروط على الذات لبلوغ هذا التفاهم الضروري، فإن افضى التفاهم الفلسطيني ـ الفلسطيني الى هدنة تبادلية مع اسرائيل فهذا انجاز لا يجوز التقليل من اهميته.. اما اذا اعلن الفلسطينيون انهم لم يتفقوا فساعتئذ لا احد يستطيع تصور حجم الاذى الذي سيلحق بهم، واول الاذى توفير غطاء لشارون كي يواصل مغامراته، حتى وهو في أسوأ اوضاعه.

*وزير الإعلام السلبق للسلطة الفلسطينية